شعار قسم مدونات

معارض الكتاب.. إهانة لشرف الكتابة أم ضرورة للتنوع؟

blogs الكتابة

أيّ شهوة أو غريزة نشبعها حينما نكتب؟ أو بدرجة أولى لماذا نكتب؟ ونحن نبحث عن إجابة لهذا السّؤال البسيط لا شكّ نحتاج لكتابة شيء ما بادئ ذي بدء، فنرى هذا الانفتاح المُريب لجزء من أجزاء الجسد الذي دواؤه الفضفضة دوما. وربّما تولّدت بعد هذا الإحساس بالتّفريغ رغبة أخرى لدينا في أن ينصت لكلماتنا شخص بعينه أو عديد من القراء، هذا اللّفظ الذي يصطلح به على قارئي الكتب التي تنبض بالأفكار والمعارف والخبرات والتجارب والثقافات كلٌّ في مجاله. فلم يعد هناك بدٌّ من وجود وسيط بين ما نكتبه ومن يقرأ ما كتبناه. ولعلّ الحديث هنا يطول عن دور النّشر، التي تتقدم ركب قافلة الكاتبين ومتاعهم المثقل بالكلمات أبدا! المشحن بانتفاضات على النفس أو الواقع! فهي القائد لهذه الرحلة التي شاءها، مادامت تصل به إلى حاجة غريزيّة أو شهوة نفاثة، تتأجج كلّما أزاح قارئ ما لثام الغربة عن كلمات ذلك الكاتب القلق المضطرب في كل حال له لأنّه ينزف حبرا، ويتجرّع ويلات الولادة وكسورها حين ينجب الكلمات.

ومما اقتضى هذه الرحلة الواقع المفعم بالتفاصيل الصغيرة لدى الكاتب صغيرا كان أم كبيرا، وما تصنعه هذه الجزيئات من تكوينه لا تتوقف في بناءه النفسي. وعدا ذلك يمكن أن نعدّ الكاتب إنسانا قبل كلّ شيء، ثم شاعرا في كلّ حالاته فهو مرهف الإحساس أنّى كان وكيفما كتب، يحبّ أن يكون طبيبا بعلمه ربّما، أو بأفكاره التي يصفها لعللٍ وأمراض مجتمعيّة أمعن النّظر فيها لا بل عايشها بكلّ شدّها وجذبها.. والرّأي في ذلك أنّ كلّ تعريف للكاتب بائد جامد ما لم يسلّط الضوء على رحلته تلك التي تتزاحم فيها الأحداث، حتى تكتنفه ضرورة تفنين أو تقنين ما يصادفه أو يُغمَرُ به. إنه خلف كلّ ما كتبه وما عبّر فيه عن مرارة تجرّعها أو خبرة خلص إليها محتاج أن يقاسي واقعا آخر في مجمله المرارة للأسف، قوامه ذلك التلدّن لدور النّشر عساها تتكرّم وتسعفه في إيصال ما يرمي إليه. وخلف كلّ ما خطّه قلمه عن تحوّل هذا العالم إلى قالب فارغ يؤمن بالمظاهر والمادّة فقط، وجد نفسه أمام صورة مصغّرة طبق الأصل لهذا العالم الذي توحّدت ألوانه تحت لواء الجفاء. وظاهرا لباطن أضحت تجربته مع النّشر هي الأخرى قصّة مأساويّة عن واقعه الثقافيّ.

فيحكى أن الزمن بكل تبدّلاته قد ضرس الكاتب حتى لكأنه عصارة تلك التغيرات، وذات عشية اكتملت لديه الصورة النهائية لفلكه الذي يدندن فيه، فقرّر أن يتّجه صوب جهة تتكفل برعاية الأحرف وصناعتها وإعطائها أكثر من لون، وبينما هو يتحرّز من سرقة كلماته وإبداعاته التي ألّفها إذ به يعود فارغ الجيب. ربّما تسلّلت يد ما إلى قميصه وهو لا يدري فاستلت منه جميع ما يملك فتقرر لديه خلاصة أخرى ككلّ التجارب التي عاشها: في ثقافتنا الثريّة لا خوف على أفكارك من السرقة، لا خوف على نظرياتك وإحصاءاتك وتقصياتك، فلا اعتبار لها موجود، لا أهمية لها والخوف كلّ الخوف على بعض ما تحتويه محصّلتك الواهية. إنّه ها هنا أما الهاجس الوحيد الذي ينغّص على الكاتب حياته، وهو التلاعب به وبأفكاره، وربّما حتى تحريفها عن جادة ما وضعت له.. ولقد ترى إذ ذاك الموضة التي تتجدّد وتتنوع حسب دور النشر التي تدّعي لنفسها الهواء الثقافي والتجديد، فلا المجدّد مجدد، ولا الثقافة ثقافة، إنما هي أسعار تزيد وتنقص تختلف وتتشابه حسب المصالح والحاجات.

هي سيكولوجية للنشر اقتضتها موضة المال، وفلسفة للتعبير والتأليف اقتضتها الرغبة في التغيير كليّة، والتصوير لهذا الواقع المعقد والمحاولات الفاشلة إن صح القول في سبيل التعايش معه

أمّا وأنت تتجول في معارض الكتب، سيلا 2018 مثلا. (المعرض الدولي للكتاب في الجزائر) ستبهرك المظاهر البرّاقة لدور النشر الورقية، تخطف لنفسها الأضواء وتتبرّج بأحلى زينة وتوظف لديها أجمل الفتيات الحسناوات تستقطبن ذوي النزوات البيولوجيّة أولا، ثمّ أولي الشهوات الرّاغبة في الثقافة، لكنّ الأخيرة تصطدم بعالم موضة الناشر الذي تنقصه الأزياء الفاضحة فقط ليظهر على صورته الحقّة، ربّما ستشتريه بدينارين فتجعله ينقاد تحت أمرك فتنشر ما تحب غثّا كان أم سمينا دون لجنة قراء كما يدّعون، ودون تمحيص لهذه الأفكار أصلًا.

ودع ذلك كلّه وتعال إلى إحدى تلك الدّور واسألها: كم تبيعون الشّرف هنا؟ لا ريب سيحدّدون لك السّعر بدقّة فتقرر أنت مع مساعٍ حثيثة لإغرائك. الشرف المباع شخص ينشر عبثا، كلمات سفسطائيّة لا تدري من أين جمعها أو حاولها، المهم أنّه راود الدّار عن نفسها فاشترها بأبخس ثمن للدينار، وما كان ذلك الثمن جودة التأليف أو ندرته أو قيمته، وقضى نزوته تلك وذهب مشوشا أي هوى سيسلكه الحين فقعد ملوما مدحورا، والذنب على تلك الدور التي شقت لذاتها طريقا من الخنوع لسلطان المال وصدّت أبوابها أمام كفاءات أخرى تحاول ضمان مستقبل واعٍ إن صحّ التّعبير لإنتاجها الثقافي الإبداعي.

إنّنا إذا أمام تضارب لرغبة الكاتب الجامحة في نقله أفكاره وضرورة تغيير ما أمكن من تفاصيل الفلك الذي يحويه، وأمام انتهازيّة دور النّشر التي استفحل فيها الفساد الفكري وأضحت لا تعترف إلا بسلطان المال، فأضحى موضتها التي تتجدّد بها، وزيّها الذي يفترض أن يتغير حسب الحاجة ربّما البيولوجية، ربّما المصلحية، إلا الثقافيّة فلا موضة للثقافة عند دور النشر. ولعلّ ما تحويه من كتب هو حجّة عليها لا لها، فقد تدّعي لنفسها نقل المعرفة، وما تدري فلعلّ الكاتب سبّها وسلّط لسانه السليط على انتهازيتها وهي تنجر وراء الماء تنقل ما تسميه هي مؤلّفات جديدة أو نادرة لم تطّلع عليها حتى.

والأدهى والأمر أنك تجد صاحب دار النشر يمتلك ذلك الزخم من الكتب ينشرها عن ناشريها بسلطان المال طبعا وهو لا يقرأ حرفا ممّا تحويه رفوف محلّه الذي هان شرفه، فلا يؤلّف الجملة المفيدة وينشر النحو، ولا يتعامل وفق المنظر الديني التعاملي وينشر الدين، ولا يعرف طريقا للثقافة من خلال تراسيم لسانه الدّالة على تاجر أو خضار ثمّ ينشر الثقافة، ولا يطلع على مستجدّات العلوم وينشر العلم. وكلّها بسلطان المال موضة النشر، فلو حادثته لا تشعر إلا برغبة في مناقشة أسعار الحليب وتدهورها من اعتدالها. هي سيكولوجية للنشر اقتضتها موضة المال، وفلسفة للتعبير والتأليف اقتضتها الرغبة في التغيير كليّة، والتصوير لهذا الواقع المعقد والمحاولات الفاشلة إن صح القول في سبيل التعايش معه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.