شعار قسم مدونات

هل يضع "الباب العالي" بن سلمان خارج الأسوار؟

blogs أردوغان

توبكابى سراى أو قصر الباب العالي ترجمة من التركية إلى لغة الضّاد هو مركز حُكم الدولة العليّة على مدى قرون أربعة. ظلّ محجّا للطّامعين والخائفين والهائمين من غير سبيل والعاملين في أطراف دولة تمدّدت حتى هرمت وما بقيت. فيه أقام كلّ سلطان وحاشيته ومن رضي عنه وأدناه ومنه صدر كل فرمان مطاع ممهور نافذ المفعول. كل هذا انتهى الآن وزال غير أن الأرض هي الأرض والناس هم الناس وما تركية إلا إرث من ذاك المجد القديم.

 

إرث لا يمكن للأتراك التقصي منه وما ينبغي لهم ذلك بل عليهم صونه واحترامه مهما قيل فيهم وعنهم. وقضية مقتل خاشقجي اختبار جيّد لمن وُصفوا بالعثمانيين الجدد، اختبار لمدى احترامهم لتاريخ أمتهم وقدرتهم على صون كرامة بلادهم بإظهار الحقيقة للعالم وعدم الخضوع للإغراءات الاقتصادية الهائلة ونحسبهم على درب الحقّ سائرون وللعدل قائمون. ومعلوم أن الخناق قد ضاق على الجناة ولم يبق إلا توجيه التّهم الصّريحة لمن دبّر وأمر وأرسل فرقته لتنفيذ الفعل المشين.

سيد الباب العالي، الرئيس رجب طيب أردوغان، كرّر مرارا وتكرارا أن بلاده ستكشف حقيقة مقتل خاشقجي كاملة أمام العالم، الحقيقة التي ينتظرها أصدقاء المغدور به وأحرار العالم. ورغم التشكيك في قدرة المحققين الأتراك على تقديم الأدلّة الدّامغة التي تشير الى تورّط القيادة السعودية ممثلة في محمد بن سلمان فإنّ تتالي التسريبات المدروسة والتصريحات غير الرسمية أثبت نجاعته فبدل انحسار القضية بين الجمهورية التركية والمملكة أصبحت قضية رأي عام دولي صبّ جام غضبه على وليّ العهد السعودي وتعالت الأصوات المطالبة بإزاحته عن منصبه ومحاسبته على الفعل المشين. فهل يتحقق العدل في عالم تحكمه اللوبيات الاقتصادية والمحاور السياسية وثيقة الارتباط مصلحيّا؟

يعيش الشعب السعودي حالة من الرّعب المترسب في النفوس فرضته الألة القمعية المسيطرة اجتماعيا وسياسيا لكن من الضّروري كسر حاجز الخوف في أوساط هذا الشعب

الآن، مع اقتراب التحقيقات في إسطنبول من نهايتها وتكشّف حقيقة مرّة أن لا جثة للفقيد وأن لا ثرى سيواريه بعد الاعلان التركي عن قيام الفرقة المارقة باستعمال الأسيد لإخفاء سوأة ما اقترفت الأيادي، لم يبق غير تحقيق العدالة. وهذا ليس بالأمر الهين فتوجيه الاتهام إلى محمد بن سلمان تصريحا لا تلميحا، إن حدث، لن يكون كافيا لإزاحته من ولاية العهد فضلا عن محاكمته إذ تلزم إجراءات أخرى كثيرة على المستويين المحلي والدولي.

محليا، يعيش الشعب السعودي حالة من الرّعب المترسب في النفوس فرضته الألة القمعية المسيطرة اجتماعيا وسياسيا لكن من الضّروري كسر حاجز الخوف في أوساط هذا الشعب ومن تبقى من شرفاء داخل البيت السعودي وعلى رأسهم الأمير أحمد ذو المصداقية العالية بهدف الحدّ من سلطة بن سلمان داخليا واجباره على رفع يده عن مقدرات البلاد الاقتصادية وتخفيف القيود المفروضة على المعارضين.

 

وفي هذا الوقت المفصلي من تاريخ المملكة الحديث، لا بد من الحسم في مسألة حقوق الإنسان وحرّية التعبير بإطلاق سراح معتقلي الرأي الذين تضخّم عددهم وراء القضبان الى حد لا يطاق. إن المبادرة بأي تغيير جذري، حاليا، لا نراها من غير سمو الأمير أحمد بن عبد العزيز فهو من يمتلك المشروعية داخل العائلة المالكة وتأييد شعبي لا يستهان به فضلا عن الرّضى الدولي الواسع وتجنبا لما يمكن أن يحدث من قلاقل في مجتمع يغلب عليه الطابع القبلي. أمّا على المستوى الدولي فالأتراك مدعوون للكشف عن كل ما بحوزتهم من أدلّة وحقائق مع تحرك سياسي ممنهج لمزيد من الضغط الذي يصب في منحى عزل ولي العهد السعودي سياسيا تمهيدا لإزاحته من منصبه وعدم ترك المجال له للإفلات من العقاب.

 

هذا التحرك يكون بتنسيق محكم مع الإدارة الأمريكية ذات اليد الطولى في الملف وخاصة مجلس النواب الذي بات يسيطر عليه الديمقراطيون بعد انتخابات التجديد النصفي الأخيرة. لا ينبغي اغفال المنظمات الدولية الحقوقية والشخصيات الوازنة في المجال لما لها من دور محوري في الابقاء على جذوة القضية ومنعها من الخمود فهي التي كانت منذ البداية المطالب الرئيسي بكشف الحقيقية ومعاقبة المجرمين. وهي من ظلت على مدى عقود تتهم المملكة السعودية بعدم احترام حقوق الإنسان وممارسة الإخفاء القسري والتعذيب داخل السجون والمعتقلات بالإضافة إلى القمع الوحشي للمعارضين وضرب الحريات المدنية والسياسية.

محاربة الربيع العربي تهدف أساسا إلى إبقاء الأنظمة السلطوية القمعية متحكمة في أقدار غالبية شعوب الشرق الأوسط واستمرار حكّامها الذين لم يخلف نهجهم في ممارسة السلطة سوى التخلف والدمار
محاربة الربيع العربي تهدف أساسا إلى إبقاء الأنظمة السلطوية القمعية متحكمة في أقدار غالبية شعوب الشرق الأوسط واستمرار حكّامها الذين لم يخلف نهجهم في ممارسة السلطة سوى التخلف والدمار

إن العهد الجديد الذي بشر به محمد بن سلمان شعبه لا يمكن أن يكون سوى بناء أوتوقراطية مقيتة في الصحراء لن تجعل من السعودية سوى دولة مارقة ومنبوذة تحت سياط العقوبات الدولية ممّا يجعل إدارة شؤونها أمرا عسيرا على شخص يدّعي الانفتاح وتفضحه ممارساته القمعية. ومع إصراره على البقاء وليا للعهد وممارسة الحكم، في عصر الأيباد، كما كان يفعل جده لن يتحقق شيئا مما وعد به من تطور اقتصادي واجتماعي لأنه يحاول تجنب رؤية الواقع من حوله والمضي فيما تمليه عليه أفكاره البدائية والمشبعة جموحا وسلطوية. لعل الأمير لا يعلم أن بداية الاصلاح والتغيير تكون ببناء مؤسسات سياسية ذات مشروعية شعبية وخاضعة لرقابة المواطنين ضمن دولة يحكمها القانون وليس بالقرارات الفوقية المسقطة وفق منحى الرغبة الشخصية الصرفة.

 

ولعله يتجاهل أن محاربة الربيع العربي تهدف أساسا إلى إبقاء الأنظمة السلطوية القمعية متحكمة في أقدار غالبية شعوب الشرق الأوسط واستمرار حكّامها الذين لم يخلف نهجهم في ممارسة السلطة سوى التخلف والدمار لأمة يشهد العالم بما تملكه من ثروات هائلة. أو ربما صاحب السمو لا يعرف أن نهجه في إدارة الأمور، اعتمادا على ترمب ونتنياهو، سيُفقد بلاده مكانتها بين الأمم العربية والإسلامية كما سيؤلب الشعب السعودي عليه وما هي إلا شرارة وتفتح عليه أبواب الجحيم من كل حدب وصوب فلا يترك له عهد ولا حكم. وإن تحرك سيد الباب العالي وفق ما تنتظره منه الشعوب التواقة لرؤية العدالة تتحقق وألزم نفسه وإدارته عدم الخضوع للمساومات والاغراءات ثمّ أوفى بما تعهد به فإنّ روح جمال سترقد بسلام أما بن سلمان سيجد نفسه يوما ما خارج الأسوار، يوما يراه بعيدا ونراه قريبا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.