شعار قسم مدونات

من فصل الدين عن الدولة إلى فصله تماما!

blogs قرآن

كيف لي أن أصلي أو أدعوا الله أو أسأله أمرا دون أن تتضرر أو تنزعج مدنية الدولة أو النظام الجمهوري فيها.. سؤال ليس له إجابة في هذه الأوقات في تونس، فلا البلاد بها مقومات الدولة، لا واقعا ولا اصطلاحا، ولا الشعب يستمتع أو يسمع بالجمهورية إلا إذا تعلق الأمر بنزع حقوق لا سبيل أن تنزع إلا باسمها. وباسم الجمهورية يجب فصل الدين عن الدولة أو هكذا تقول الطبقة التي قرأت الكثير من الكتب وجابت العالم تتعرف وتتقصى الحضارات والثقافات وتدرس أسس تقدم الأمم وتطورها. طبقة معينة من قبل نفسها تقضي وتحكم على الضمائر باسم حرية الضمير وتحلل الخطابات وتمنع ما يمكن أن يفهم منه تداخل في خطاب الفرد لربه وخطابه للمجتمع.. هي فئة تستكثر عليك أن تخرج شاكرا حامدا لربك أمام الناس لأن الأمر قد يربك أنظمة تخزين المعلومات الخاصة بالجمهورية.

في الحقيقة لا تُضيّق هذه الطبقة علينا كثيرا، فلك أن تشرب الخمر في العمل أو تحضر بصفتك وزيرا جلسة رسمية لمجلس الشعب وأنت ثمل أو تخرج شاهرا سيفا ترهب الناس في الشارع أو ركاب المواصلات العامة وأنت تحت تأثير المسكرات، بل قد تستخدم سيارة تابعة لرئاسة الجمهورية في تجارة المخدارت كما حدث قبل أسابيع، كما يمكنك أن تُقبّل من تعرفه ولا تعرفه في الأماكن العامة، المهم أن تفعل ما تفعله باسم الحب أو الحرية، هنا قد تحميك الجمهورية دام عزها في ظل قوة تأثير حماتها.

منذ أيام حدث ما يحدث في البلاد كل سنة ولكن ما ميزه هذه المرة قربه من مراكز الإعلام في تونس، سيول جرفت ما أمامها في محافظة نابل شمال شرق تونس، وكان بين ضحاياها أختان أسأل الله أن يتقبلهما عنده من الشهداء. لإخواني في الوطني العربي ومن يعتقد أني لم أرتكب مخالفة قد تدمر النظام الجمهوري فلتسلم دراسته وتكوينه الجامعي وعلومه وثقافته.. فأنا قد ارتكبت جرما يصرف النظر عن صفقات الفساد في بناء جسور متهاوية ويؤجل التحقيق في اختفاء الطرق وقنوات الصرف.

  

النخبة التقديمة كما تسمي نفسها وتحصر التقدم في أفكارها وتضع تحت المجهر جميع الحوادث العفوية التي تشير للتدين أو يظهر فيها موروث الشعب الديني

نعم الدعاء بالشهادة ليس من طبع النظام الجمهوري أو قاموسه أو قواعده التي تمنع أن يختلط الخطاب الفردي الشخصي الذي هو بين الشخص وخالقة وبين الشخص والمجتمع، هكذا وبهذه البساطة ومن دون طلب مزيد من التفصيل، لأن الأمر واضح إلا لمن يزال حبيس موروثٍ ما يمنع تحرره. هذا ما حدث تقريبا فقد أقيل رئيس المعهد الوطني للرصد الجوي بتونس بسبب أنه تدخل عبر الإذاعة صباح الحادثة وقال: "أحسبهم من الشهداء هنيئا لمن توفي وهنيئا لآبائهم، قد تمنيت أني من الشهداء"، نعم، أقيل من وزارة النقل التي يتبعها المرصد الجوي كما يتبعها ديوان التجهيز الذي جرفت السيول جميع طرقاته ولم يبق له طريق سليم في محافظة بأكملها.

 
نعم، لم تحرك الوزارة قصبة ولم تبدأ تحقيقات في المسألة، قد لا يكون لها مدونة عن رأي الجمهورية في الفساد وفي التلاعب بالصفقات وعمليات خلط التراب والسيول والإسفلت، في المقابل هناك تفصيل مستفيض لباب خلط العلم والدين، حتى إن تفاصيله شغلت التقدميين فتصريح مهندس الأرصاد غطى على أخبار السيول وأخبار الضحايا والعائلات وتضرر التجار والفلاحة وغيرها.

وكالعادة في حوادث مشابهة، تحركت ماكينة عجيبة غريبة بتنسيق ومن دونه تحاول فرض مسار معين للتفكير على الجميع الالتزام به، تحذير مما يصفونه بخطاب على طريقة قادة تنظيم داعش. ماكينة تخلق وخلقت قالبا لا يُسمح لكوادر الدولة بالخروج منه ولا يسمح للمواطنين بالتفكير خارجه حماية للنظام الجمهوري، يسوقون مبررات كثيرة غامضة ومكررة وأغلب فصولها مبنية على الكذب والتلفيق وربط أحداث غير منطقية ببعضها، وإن كان لا يفوتهم التنصيص في بداية كل حديث وفي ختامه "لا عداء لنا مع الإسلام"، وهي عبارة تطرح تساءل من أين يتكلمون من داخل الدين أو خارجه؟

النخبة التقديمة هذه أو كما تسمي نفسها وتحصر التقدم في أفكارها وتضع تحت المجهر جميع الحوادث العفوية التي تشير للتدين أو يظهر فيها موروث الشعب الديني، فنظافة الجوامع تلفت نظرهم وكثرة المصلين تقلقهم وحسن صوت شيخ أو قبول الناس عليه يضع علامات استفهام، أو أن يصلي أحدهم أو يدعو الله جهرا كما فعل المدرب المنتخب أو وجود مصلى في ثكنة عسكرية أو مدرسة أو فندق أو مؤسسة جميعها إشارات لثقافة داعش.. داعش التي لم تعمر إلا سنوات أصبح لها موروث برأيهم، والدين الإسلامي الذي هو أعرق من الجمهوريات جميعها، ورثوه لداعش! هي في الأصل شبكة لها 7 سنوات لم تغادر الشاشة يوما، بعضهم يفتح قوسا في الليل على هذه الشاشة ويغلقه في الصباح وهو أمام مصدح راديو آخر.

بث مباشر متواصل لفكرة واحدة مكررة وسمجة، ولهذا تجاهلهم الجميع في البداية معولا على وعي الشعب في كشف كذبهم، غير أنهم بدأوا يربحون المساحات وبدأت حملاتهم تؤتي أكلها، فقد ظهر أن الدولة تتخذ قرارات وفق ضغوطهم فبعض المسؤولين يخشى أن يكون مادة إعلامية لمؤسسات صحفية سلاحها الفبركة والنكات والسخرية والشتم، فهم الآن قوة ضاغطة أكثرَ قوةً مما يتصور الليبيراليون أنفسهم.

العصر عصر المنابر المباشرة التي تسأل وتجيب وتكذب وتزيد دون محاكمة ولا تتبع، هي أسوأ فترة، نعم أسوأ من ذي قبل
العصر عصر المنابر المباشرة التي تسأل وتجيب وتكذب وتزيد دون محاكمة ولا تتبع، هي أسوأ فترة، نعم أسوأ من ذي قبل
 

الآن الدولة لا تدار وفق الدستور بل وفق ضغطهم، فالمرأة لدينا حرة تختار ما تشاء وتقرر مصيرها إلا المحجبة أو المنقبة، والدستور ينص على أن الدولة دينها الإسلام، أما رئيسها فيُصفق له حينما يقول "لا علاقة لنا بالدين والقرآن"، وهم يقفون ضد عقوبة الإعدام لأنها وردت في القرآن ولكن يدعون لها وفق أهوائهم وبتعلات ساذجة كما حدث في حادثة اغتصاب قبل شهر، وهم يدعون لفصل الدين عن الدولة ولكن لديهم شيوخ على مقاسهم يفتون تحت الطلب ووفق الحاجة، وما يقوله مشايخهم فكرٌ تنويري وما يقولوه غيرهم فكر داعشي.

كل هذا وعصى الاتهام بداعش مسلطة فوق الجميع إما من التلفزيون أو الراديو لا وقت لحكم القضاء، العصر عصر المنابر المباشرة التي تسأل وتجيب وتكذب وتزيد دون محاكمة ولا تتبع، هي أسوأ فترة، نعم أسوأ من ذي قبل.. فمطاردة المتدينين كانت وفق خطوط حمراء لثقافة الشعب، أما الآن فقد أصبح على الجميع فصل الدين عن الفضاء العام، يعني أنه مسموح لك أن تصلي ولكن تنتهي علاقة بربك هناك في مكان الركوع، ولا يجب أن ترافقك سمة منه في تعاملاتك وعلاقاتك ولا تظهر في سلوكك خاصة لوكنت في إدارة جمهورية أو وسيلة نقل من الأموال العمومية أو تمشي فوق أسفلت الإدارة العامة للتجهيز الذي جرفته السيول فيما بعد. ليس من بين من يروج لنفسه أنه تقدمي وليبيرالي أكثر من متصدري المشهد التونسي الآن، ولكن لم نجد من بينهم من يقبل النقد أو يحترم رأي الآخرين أو يعاملون الناس كراشدين.

للأسف النموذج التونسي الليبيرالي ضيق الأفق جدا حتى أنه يضيق بكلمة في مسجد، فيما يقول هو في الإذاعة ما يريد ويشن ويكفر ويخون وكله بشكل جمهوري، أما غيره فقد يكلفه إعجاب المصلين به أن ينعت بأبشع النعوت ويتهم بالإرهاب وبالترويج له فيطرد من تونس ليخطب في أوروبا "الداعشية" كحال الشيخ بشير بن حسن، الذي صدق فيه قول: لتكون قريبا من دينك سافر إلى أوروبا حيث تحتمي الدولة والمواطن كلاهما بالنظام الجمهوري، وقد علق الكوميدي الجزائري محمد فلاق يوما: نحن لدينا دولة ولكننا ننتظر الجمهورية حتى الآن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.