شعار قسم مدونات

"النوستالجيا".. لماذا يلجأ الإنسان للعيش في الماضي؟

blog - 2ذكريات

"مضت سنين طويلة.. لا أذكرها.. غبت فيها عني.. ولا زلت انتظرني.. اشتقت جدا إلي.. وإلى أحاديثي وهمومي الصغيرة.. وأمنياتي الكبيرة.. أفتقدني منذ أن كبرت!"

كلمات قليلة لكنها عميقة تثير الشجون والذكريات، عبر فيها كاتبها عن حنينه إلى الماضي. هي ذكريات تغنى فيها الشعراء والكتاب، ووجدت كثير من أصداء القبول والامتنان، وأثارت في النفوس مشاعر مختلطة ما بين السعادة والألم والشجون والحزن وأحيانا الندم. هي حنين إلى الأشخاص الذين فقدناهم، إلى الأماكن الخالية، إلى أيام الطفولة البريئة، إلى أصدقاء الزمن الجميل، إلى العلاقات الاجتماعية القوية، إلى بساطة الحياة، وإلى التفاصيل الصغيرة، وربما حنين إلى أنفسنا: شكلنا وملامحنا وأعمارنا وأحلامنا التي طوتها دفاتر الأيام. ومن جهة أخرى قد تكون انعكاسا للخوف من سرعة مرور الأيام والأحداث، أو رغبة في العودة إلى هذه الأزمان والأماكن والمراحل فنعيشها كما يجب أن تكون. فهل كان كل شيء جيدا؟ ما الذي يجعلنا نشعر بجماليات الأشياء بعد انقضائها أكثر من استشعارها أثناء اللحظة وفي زمانها ومكانها؟

إن الذاكرة ليست شريط فيديو مصور يسجل بدقة ما جرى وكان، والناس يتباينون في طريقة تقييمهم للماضي؛ فالبعض قد يراه جميلا، والبعض الآخر قد يجد في استرجاعه الألم والحرمان، كل تبعا لتجاربه الشخصية، والحقيقة أننا نمارس في استرجاعنا لذكريات الماضي بعض أخطاء التفكير ومنها: التفكير الانتقائي بانتقاء الإيجابيات وتجاهل السلبيات، والمبالغة، والتعميم الزائد، والتفكير القطبي (الكل أو لا شيء، أبيض أو أسود)، والتفكير العاطفي (تفسير الأمور وفقا لما يرغبه الفرد ويرتاح إليه)، أو استيعاب شيئا وتصويره اعتمادا على جزء منه وإهمال الباقي. يقول مارسيل بروست " إن تذكر أشياء من الماضي ليس بالضرورة أن تكون كتذكر الأشياء كما كانت عليه في وقت مضى".

الحنين إلى الماضي له أساس سيكولوجي، يطلق عليه مصطلح النوستولجيا أو النوستالجيا (الحنين إلى ماضي مثالي)، والذي ابتكره طالب الطب يوهانس هوفر

في الغالب يشعر الفرد بالأمان النفسي والراحة والاطمئنان بالعيش في الماضي الذي يألف أحداثه وأشخاصه، بينما قد يشعر بالخوف أو التوجس من المستقبل فيحكم عليه أحكاما خاطئة نتيجة تصورات ذهنية لحوادث مؤلمة لم تقع له وإنما وقعت لغيره؛ فيتصور أنه لا بد أن سيواجهها يوما ما. والغريب أنه لا يعيش اللحظة الراهنة فتنسحب منه لحظات السعادة من غير أن يستشعرها وتمر سريعا. يقول آلي لوندي: "إنه لأمر غريب كيف أننا نتمسك بالأشياء التي حدثت في الماضي في حين لا زلنا ننتظر ماذا سيحدث بالمستقبل".

لعل التغيرات البطيئة قديما خاصة في المظاهر الاجتماعية أتاحت للناس معالجة المشكلات بسهولة مقارنة بحجم التغيرات المتسارعة في هذا العصر والذي نجم عنها ظاهرة الاغتراب النفسي وصعوبة التكيف خاصة لدى كبار السن. أحيانا نشعر بالحنين لأماكن لم نزرها وظروف لم نعشها، ربما شاهدناها في فيلم قديم، أو عايشناها من خلال سماع أغنية طويلة، أو رواية طويلة جسدت آمالنا وأحلامنا، يعبر عنها كارسون مكولارس بقوله: "يمتلك البعض الكثير من الحنين للأماكن التي لا يعرفونها مطلقاً".

إلا أن الحنين إلى الماضي له أساس سيكولوجي، يطلق عليه مصطلح النوستولجيا أو النوستالجيا (الحنين إلى ماضي مثالي)، والذي ابتكره طالب الطب يوهانس هوفر بعد أن لاحظ أن مجموعة من العمال المأجورين السويسريين المغتربين عن أوطانهم كانت تظهر عليهم أعراض مرضية مشتركة مثل: أرق وعدم انتظام ضربات القلب، وعسر هضم، وتبين فيما بعد أن من أهم أسبابها الشوق والحنين إلى أوطانهم. ويشير علماء النفس أن النولستوجيا هي آلية دفاع يستخدمها العقل لتحسين الحالة النفسية ولتحسين المزاج خاصة عندما نواجه صعوبات في التكيف وعند الشعور بالوحدة، كما أن الحنين للماضي مهم للصحة العقلية والنفسية، وله فوائد جسدية وعاطفية؛ فهو أسلوب ناجح في محاربة الاكتئاب وقتيا ويعزز الثقة بالنفس والنضج الاجتماعي. وقد أثبت العلم الحديث الشعور النوستالجي باستخدام صورة الرنين المغناطيسي للدماغ.

لا شك أن الحنين إلى الماضي بتفاصيله شيء جميل ويمدنا بسعادة وراحة، ولكن يكمن الخطورة في إدمان استرجاع ذكريات الماضي؛ وفي المبالغة باستخدام الحيل الدفاعية النفسية مثل النكوص (ممارسة سلوكيات لا تتناسب مع العمر) وأحلام اليقظة، والإنكار (مثل: إنكار موت عزيز أو إنكار التعرض لتجربة مريرة). إن اعتماد الفرد على الوسائل النفسية الدفاعية للتخلص من التوتر والألم النفسي وفي البحث عن السعادة بشكل متكرر ودائم، يعيق نموه فيصبح الانسحاب من الحاضر أسلوب حياة، ويصبح الفرد عاجزا عن اتخاذ القرارات الصحيحة كلما واجهته تحديات.

ربما حياتنا في الوقت الحاضر ليست جيدة بالقدر الكافي، لكن بإمكاننا العودة إلى ممارسة النشاطات التي لطالما أحببناها وفضلناها، وتوطيد العلاقات الاجتماعية التي بتنا نشكو ضعفها
ربما حياتنا في الوقت الحاضر ليست جيدة بالقدر الكافي، لكن بإمكاننا العودة إلى ممارسة النشاطات التي لطالما أحببناها وفضلناها، وتوطيد العلاقات الاجتماعية التي بتنا نشكو ضعفها
 

برترناد راسل يقول في كتابه "الفوز بالسعادة: "السعادة ليست هروبا من الواقع ومآسيه إنما التحرر من تأثيره فينا وسيطرته علينا …. والسعادة هي في الحياة الواقعية لأن الإفراط في التفكير بمستقبلنا يهدم لذة الاستمتاع بحاضرنا". ويقول حسين أمين في كتابه "كيمياء السعادة" إن جهل الغالبية بالتاريخ يسهل على الناس تزييف الماضي فلو عدنا إلى الماضي بملابساته الحقيقة بعد تقديسه وتفخيمه لأصابتنا خيبة أمل عظيمة".

علماء النفس وجدوا أن معظم العقلانيين هم الأكثر اطمئنانا، فالناس الذين يفهمون الأشياء بعدها دائما تحدث إلى الأفضل هم الأكثر سعادة، إن الحاضر هو الزمن الوحيد الذي نملك مفاتيح سعادته لأننا نعيش فيه، والسعادة مرتبطة بطبيعة الفرد وتكوينه ومزاجه وشخصيته ومقدار رضاه عن نفسه، وفي القدرة على الاستمتاع بالمشاعر العميقة والشعور بالامتنان والشكر، والانتماء لهذه الحياة، وإدراك الواقع بفعالية من خلال إيقاظ الغايات النبيلة والإنسانية وليس للأحداث الخارجية إلا تأثيرا غير مباشر. ومن أجمل ما قال إبراهيم الفقي: (إن كل يوم تعيشه هو نعمة من الله فلا تضيعه بالقلق من المستقبل أو الحسرة على الماضي).

ربما حياتنا في الوقت الحاضر ليست جيدة بالقدر الكافي، لكن بإمكاننا العودة إلى ممارسة النشاطات التي لطالما أحببناها وفضلناها، وتوطيد العلاقات الاجتماعية التي بتنا نشكو ضعفها، ودائما هناك فرصة جديدة هي الآن، والحياة بها الكثير مما يستحق الاكتشاف، يجسدها قول جميل لشخص عميق: (إن الحياة ممتلئة جدا للدرجة التي لن تكون في يوم من الأيام أحطت فيها ولو بمجال واحد فقط، وأعمارنا قصيرة جدا على هذه الحياة المليئة بالجمال).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.