شعار قسم مدونات

التعدين العشوائي.. كيف فقد السودان ثروته من الذهب؟

blogs التعدين العشوائي

أولاً دعونا نتحدث عن شيء نتفق عليه جميعاً. إن ثروات الأرض هبة من الله للإنسان تساعده على إعمار هذه الأرض ولكن هذا الاستغلال يجب ألا يكون بلا حدود. فمن جهة، فإن هذه الموارد في ذاتها محدودة ومن جهة أخرى بعضها غير متجدد ولا يمكن تعويض ما يستنفد منها.

للسودان تاريخ حافل بالتعدين عن الذهب خلال الحضارات القديمة وقد كان حتى جاذباً للغزاة للحصول على هذه الثروة خلال بعض فترات تاريخه. خلال السنوات القليلة الماضية، وبعد أن فقد السودان حصة كبيرة من حقول النفط والتي ذهبت لدولة جنوب السودان بعد الاستفتاء الذي انتهى بالانفصال، ولتلافي هزة اقتصادية متوقعة وبحث الحكومة السودانية عن مورد اخر سريع الاستثمار.. تزامن ذلك مع حمى البحث عن الذهب في السودان من قبل مواطنين عاديين.. فوجدت الحكومة السودانية وبمنطق نفعي قصير النظر إلى هذ المورد الجديد كبديل سريع لتعويض المفقود من ثروة النفط وللحصول على العملة الصعبة.. فشجعت التعدين العشوائي بكافة أشكاله.

إن الطرق الحديثة لاستكشاف الذهب واستخلاصه تتبع قواعد علمية استكشافية تنتهي بدراسات جدوى حتى تقرر الشركات الدخول في استخراج الخام المكتشف. فالاستثمار في مجال التعدين استثمار شديد المخاطرة ولا يمكن تعظيم فوائده دون الدخول في دراسات كافية، فكلما زادت الدراسات الاستكشافية وتنوعت كلما انخفضت المخاطرة، ولكنها لا تنتهي حتى أثناء الاستخراج. فعملية الإنتاج في حد ذاتها عملية استكشاف مستمرة. وهذه الدراسات تستمر لسنوات حتى ترى الشركة عائد عملها الاستكشافي على شكل ذهب خام. 

شجع السودان التعدين العشوائي نظراً لعوائده السريعة وعدم المخاطرة التي تتكبدها الدولة والشركات في الدخول في مغامرة كالدخول في الاستثمار في مجال التنقيب عن الذهب وشجعت الدولة ممثلة بوزارة المعادن خلال السنوات السابقة التنقيب العشوائي وذلك رغماً عن قانون تنمية الثروة المعدنية الذي يمنع التعدين العشوائي ورغماً عن العقوبات التي يمكن أن توقع على من يقوم به. وحتى أن وزراء تعدين سابقين كانوا يزورون مواقع التعدين العشوائي ويشجون المعدنيين على استخراج هذا المعدن الثمين.

التقنيات التي يستخدمها المعدنون العشوائيون هي تقنيات في أغلبها بدائية وهي بكل تأكيد ليست بذات كفاءة التقنيات التي تستخدمها الشركات الاستكشافية المتخصصة

التعدين عموماً له تأثيرات ايجابيه وتأثيرات أخرى سلبية. فالتعدين الذي تقوم به الشركات أيضاً له تأثيرات سلبية، ولكني هنا سأركز فقط على التعدين العشوائي لأنه تعدين غير منظم وتأثيراته السالبة على المدى الطويل أكثر من فوائده المنظورة وإن كانت كثيرة. تمنع الكثير من الدول، وحتى النامية منها ومن بينها السودان، التعدين العشوائي في قوانينها، بل وتجرمه. إن هذا المنع من الأهمية بمكان نظراً لتأثيرات التعدين العشوائي السلبية الكبيرة التي تتنوع ما بين تأثيرات بيئية واجتماعية واقتصادية كبيرة قد يكون لها من الأثر السالب ما لا يمكن عكسه.

في هذه اللمحة السريعة لن أتحدث عن كل هذه التأثيرات السالبة الموثقة، ولكني سأتحدث عن الخسارة التي تعرض لها السودان من ناحية اقتصادية بسبب تشجيع التعدين العشوائي. دعونا نعرف أولاً أن التقنيات التي يستخدمها المعدنون العشوائيون هي تقنيات في أغلبها بدائية وهي بكل تأكيد ليست بذات كفاءة التقنيات التي تستخدمها الشركات الاستكشافية المتخصصة. يستخدم المعدنون العشوائيون عادة الزئبق لاستخلاص الذهب من الصخور المطحونة. ولكن كفاءة هذه المادة في الاستخلاص ليست كبيرة. فبعض الدراسات تظهر أن كفاءة الزئبق في استخلاص الذهب لايمكن أن تزيد عن أكثر من 30 بالمئة. أي أن 30 بالمائة من الذهب الموجود في الصخر فقط يمكن أن يستخلصه الزئبق وليس له القدرة على استخلاص باقي الكمية الموجودة.

لنضرب مثالاً بسيطاً على ذلك، إذا استخلص شخص يعمل في التعدين العشوائي باستخدام الزئبق ثلاثين جراماً من 100 كيلوجرام من الصخور. هذا يعني أنه كان بالإمكان استخلاص 100 جرام من ذات هذه الكمية (100 كيلوجرام). وهذا يعني أنه أضاع 70 جراماً نظراً لاستخدام تقنية تنقية بدائية كالزئبق. بكل تأكيد، إن الحسابات بهذا التبسيط ليست دقيقة تماماً ولكن فيها تبسيط غير مخل يمكن أن يقرب الصورة أكثر لغير المتخصصين.

لنعمم هذا المثال المبسط على الإنتاج الكلي للسودان من الذهب خلال العام 2015. فحسب ما نشر في وسائل الاعلام عن تقرير الإنتاج الرسمي الصادر عن وزارة المعادن لعام 2015، أن السودان أنتج 82.3 طن من الذهب خلال ذلك العام فقط، منها 14.8 طن من الشركات و67.5 طن من التعدين العشوائي.

بذات الفهم السابق، دعونا نحسب كم هو الفاقد خلال العام السابق والذي لم يتمكن التعدين العشوائي من استخلاصه. فإنتاج 67.5 طن يعني أن هذا الرقم يمثل فقط الثلاثين في المائة التي يمكن للزئبق استخلاصها. بحساب بسيط سنصل إلى أن الرقم الذي كان يمكن أن ينتج باستخدام تقنيات استخلاص أكثر كفاءة هو 225 طن من الذهب. لنفترض أن سعر الذهب في السوق العالمي هو 30 دولاراً للجرام. وبما أن طن الذهب يحوي على 1000000 جرام. فإن الفاقد بالدولار الأمريكي يساوي 225 مليون دولار خلال العام 2015. هذا دون التطرق للذهب الذي يحصل تهريبه والذي يمكن أن يكون أيضاً رقماً مقدراً ودون التطرق للمعادن المصاحبة للذهب والتي لا يتم استخلاصها في عملية التعدين البسيط هذا.. بكل بساطة تضيع هذه الثروات هباءً وتذروها الرياح بسبب قصر النظر والبحث عن حلول قصيرة الأمد.. هذا الرقم الكبير من الفاقد كان يمكن أن يكون رافداً كبيراً للاقتصاد في السودان الذي يمر بأسوأ حالاته، إن كان قد تم استخدام تقنيات أكفأ.

لنتخيل حجم الضرر الذي سببناه للأجيال القادمة، ولنتخيل وجودهم على أرض تم استنفاد مواردها ولم يعد فيها ما يمكن أن يساهم في نمو الاقتصاد ويضمن استمرار وجودهم على هذه الأرض
لنتخيل حجم الضرر الذي سببناه للأجيال القادمة، ولنتخيل وجودهم على أرض تم استنفاد مواردها ولم يعد فيها ما يمكن أن يساهم في نمو الاقتصاد ويضمن استمرار وجودهم على هذه الأرض

لدي تمرين صغير لك، قم بالبحث في الإنترنت واحصل على إنتاج السودان من الذهب لكل سنة واعرف كم نسبة الذهب المستخرج بواسطة التعدين العشوائي واستخدم ذات الطريقة البسيطة التي اتبعتها في المثال المبسط السابق لتعرف كم كان من المفترض أن يكون الإنتاج المتوقع لو كانت التقنيات أكفأ، وحول الرقم الي الدولار، في الأخير قم بجمع العائد بالدولار لكل السنوات التي تحصلت على نتائجها وسيجعلك الرقم تسأل نفسك لماذا يخسر السودان كل هذا؟ وما هو الأفضل من كل النواحي، أيتم استخراج هذه الثروات الآن أم ابقاؤها لحينن الحوجة اليها لغرض محدد واستثمار عائداتها في مجالات مستدامة كالزراعة والسياحة.

في كل دول العالم تعتبر إدارة الموارد الطبيعية واحدة من ركائز التخطيط والنمو. تدرس الكثير من الدول وبكل دقة، كم من ثرواتها غير المستدامة يجب استخراجه ومتى وأين يجب أن تستغل عائداتها. إن ترك الموارد الطبيعية هكذا دون تخطيط ودون إدارة ودون قوانين رادعة مطبقة يفقد الدول الكثير من مستقبلها. لنتخيل حجم الضرر الذي سببناه للأجيال القادمة، ولنتخيل وجودهم على أرض تم استنفاد مواردها ولم يعد فيها ما يمكن أن يساهم في نمو الاقتصاد ويضمن استمرار وجودهم على هذه الأرض. الصورة قاتمة بكل تأكيد، ستكرهنا الأجيال القادمة وستلعننا بسبب ما عملت أيدينا. دعونا نتوقف لحظة ونفكر في كيفية ادارة مواردنا الطبيعية، دعونا نسأل كم وكيف ومتى ولماذا؟ دعونا ندعو لإيقاف هذا العبث.. الآن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.