شعار قسم مدونات

سباق القراصنة والثوريين.. كيف تحولت فنزويلا من الثراء إلى الفقر والانهيار؟

BLOGS الرئيس الفنزويلي

مقطع فيديو نشره مطعم شهير في اسطنبول للرئيس الفنزويلي وهو يشاهد تقطيع اللحم ورشّ الملح من الشيف نصرت صاحب المطعم المشهور بطريقته في رش الملح.. أغضب مقطعُ الفيديو المتابعين من الفنزوليين وغيرهم، فالرئيس الذي ظهر يتناول وليمة اللحم في المطعم الفاخر ويدخن السيغار الكوبي يعيش شعبُه حالة جوع وفقر وتمر بلاده بأسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها وفق صندوق النقد الدولي. الشيف على ما يبدو لا يشاهد النشرات العالمية كثيراً ولم يرَ الصور المريعة من فنزويلا منذ أسابيع لحشود النازحين من مرارة الفقر والجوع والغلاء والتضخم الحاد ونقص السيولة وانهيار العملة والأزمة النقدية والاقتصادية التي هوت بالبلاد، ليس بشكل مفاجئ حدث هذا السقوط بل عقب سنوات من التحذيرات والتوقعات.

 

فنزويلا من أكبر مصدري البترول في العالم وتملك أكبر احتياطيات الخام في العالم ويبلغ تعداد سكانها وفق إحصائيات رسمية حديثة نحو 30 مليون نسمة.. ما الذي يحول الثراء في حالة فنزويلا إلى فقر وفشل وانهيار؟ أين تنفق عائدات النفط إذا كان السكان قد اضطروا للتسول أو نبش القمامة بحثاً عن الطعام، وإلى النزوح بحثاً عن المال…؟ فنزويلا ليس فيها نزاع مسلح تستنفذ فيه الأموال على الأسلحة والمحاربين، لكنها تمر باضطرابات سياسية منذ 2014 وتاريخها عموماً حافل بعدم الاستقرار السياسي.. هل تعرضت فنزويلا للتصفية؟

في كتابه "اعترافات قرصان اقتصادي" يصف جون بيركنز الرئيسَ الفنزويلي السابق هوغو تشافيز بعدم الكفاءة اقتصادياً، وذلك برغم تعديده بعضا من التدابير التي اتخذها تشافيز في بداية حُكمه وأحدثت وفق الكاتب نتائج إيجابية آنذاك.. وقد يتساءل من اطلع على اعترافات القرصان الاقتصادي بشأن فنزويلا إن كان حديثُ القرصان الاقتصادي السابق جون بيركنز عن استهداف أمريكا وتحالف الإمبريالية لفنزويلا نهاية الثمانينات له علاقة بما وصلت له الأمور الآن، أم أنّ أسباب أخرى أدت للأزمة.

نجت فنزويلا من الاجتياح والأطماع الأمريكية ونجى تشافيز من محاولات إزاحته رغم تمكن واشنطن من دعم انقلابات سابقة في دول لاتينية أخرى

المناصرون للسياسات اليسارية والثورية في فنزويلا يرون أن العقوبات الأمريكية على البلاد هي السبب في الانهيار الذي يشهده اقتصادها اليوم، وقد فرضت واشنطن على كراكاس حزم عقوبات اقتصادية منذ إدارة الرئيس أوباما تحظر المستثمرين والشركات الأمريكية على العمل في فنزويلا إضافة إلى عقوبات في حق مسؤولين وأشخاص نافذين في البلاد بينهم الرئيس الفنزويلي، وتحرم العقوبات الرئاسة في فنزويلا النفاذ إلى مصادر تمويل وحسابات مهمة، ونظراً لأن فنزويلا تعتمد كاملاً على الاستيراد من الخارج واستجلاب البضاعة بالعملة الأجنبية، أدت بعض العقوبات لشحٍ في توفر بعض السلع الأساسية كالأدوية وغيرها.

ورغم هذا التوتر في العلاقة بينهما، تفيد بيانات وزارة الخارجية الأمريكية أن واشنطن ما تزال الشريك الأكبر اقتصادياً لكراكاس التي تعد خامس أكبر مزودٍ لأمريكا بالنفط، وقد سبق ودعمت واشنطن في عهد بوش محاولة الإطاحة بتشافيز عندما دعمت الانقلاب ضده عام 2002 قبل أن يفلت الزعيم اليساري من محاولة الانقلاب باستعادته السيطرة على مقاليد الحكم بعد وقوف القوات المسلحة إلى جانبه وفشل الانقلاب. يقول جون بيركنز "القرصان الاقتصادي" في كتابه أن ما ساعد على إفلات فنزويلا النفطية وتشافيز من محاولة استهداف أمريكا هو انشغال إدارة جورج بوش حينئذ بأولويات أخرى كبرى وهي اجتياح العراق والمهمة العسكرية في أفغانستان.

نجت فنزويلا إذاً من الاجتياح والأطماع الأمريكية ونجى تشافيز من محاولات إزاحته رغم تمكن واشنطن من دعم انقلابات سابقة في دول لاتينية أخرى، ولكن بعد إفلاته مما حدث.. هل غير تشافيز سياساته في حكم بلاده؟ هل وضع أجندته السياسية وأفكاره الثورية وعدائه لخصومه السياسيين على جنب وركز على إدارة عائدات بلاده بحكمة وتنويع مصادر دخله وقايةً من تقلب أسعار النفط التي أضرت باقتصاد البلاد في أكثر من مرة؟ هل شهدت البنية التحتية للنفط في بلاده تجديداً وتوسعة وتقوية؟ هل خلق فرص تنمية تغنيه عن الحاجة لشركات متخفية بستار بناء الأمم النامية لتُغرقها فريسة الديون لعقود وتتحكم فيها؟ هل دعم المشاريع الخاصة بالتصور الذي يناسبُه دون تغول الرأسمالية التي يمقتها ولكن بما يخدم شعبه؟ 

لا تقاس إنجازات الحكام بما قدموه في فترة حكمهم فحسب؛ بل بما قدموا من قرارات مستديمة النتائج تديم الرخاء على بلدانهم ولو بعد رحيلهم، وقد كانت فنزويلا التي يفر منها سكانها اليوم عندما استلمها تشافيز تنتج 3 ملايين برميل من الخام يومياً.. ولسنا في عرض الحديث عن تشافيز كشخص أو تقييمه بل هو مثال لحالات متشابهة رغم تغير التفاصيل والسياقات، فتشافيز في ميزان آخر نجح في فرض قوانين تزيد من حصة أرباح بلاده من شركات تنقيب النفط، وأصدر بعض القوانين لصالح الفلاحين والعمال، وأسس لنظام ضمان وخدمات رعاية اجتماعية مجاني واسع غير مفعل الآن بسبب الأزمة لكنه كان قراراً ثورياً في فترة صدوره، لكنه يظل مثالاً على الزعماء والقيادات التي تتيحُ الحجة للاغتيال الاقتصادي أو الاجتياح والتدخل بتقصيرها تجاه شعوبها.

لو أن كل زعيم ثوري حارب الرأسمالية والإمبريالية والجشع الأمريكي بأن بنى بلاده وعمّرها بالأفعال لما ترك ذريعة لشعبه ولا لمستهدفيه أن ينالوا منه، ولو أن كل معارضة كانت وطنية ولا تستقبل املاءاتها من خارج الحدود لكانت الكثير من الأوطان بصحةٍ أفضل. والاغتيال الاقتصادي لمن لم يقرأ كتاب اعترافات القرصان الاقتصادي يُقصد به استهداف الدول في اقتصادها، اختراق الدول عبر شركات ضخمة متخفية بشعارات المساعدة والدعم للدول النامية تقدم عروض مشاريع تنمية وكهرباء وبناء سدود واستخراج بترول بأرقام أكبر مما تحتاج المشاريع حقاً، من أجل إقراض الحكومات ومن ثم إرضاخها للديون لسنوات طويلة لتظل بما لديها من موارد رهينة ومدينةً دوماً للمانحين.

ينبهنا فيديو نيكولاس مادورو- الرئيس الفنزويلي- المتفاخر بنفسه في المطعم وأمامه قطعة الستيك المشوي أن الأمم قد لا يتم اغتيالُها من الإمبرالية بل قد تسقط بأيدي أبنائها بسبب سوء الإدارة والفساد وجشع المسؤولين والحكام، وأن الشركات التي تُغرق الدول في الديون وتستخرج النفط والموارد دون اكتراث بالتنمية أو معايير حماية البيئة لم تجد هذه الفرصة سوى بتخاذل الحكومات المحلية، وليست قلة العائدات فقط ما يسبب تعاسة الشعوب، بل أحياناً كثرتها وفائضها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.