شعار قسم مدونات

جمال خاشقجي.. تاريخ يتجدد!

blogs جمال خاشقجي

ما زالت قضية اختطاف الإعلامي السعودي جمال خاشقجي تدور في وسائل الإعلام؛ كلٌّ يتناولها من جانب، لكن الضجة التي أُثيرت حول اختطافه واغتياله بوحشية لا تعني بحالٍ أنه ضحية حرية التعبير الأوحد في العالم عامةً، وفي عالمنا العربي خاصةً. دون أن يعني كلامي هذا بحالٍ تهويناً من الجريمة العابرة للحدود في مقتله.

لكننا إن رجعنا فقرأنا في تاريخنا أكثر لوجدنا ملكاً عظُمَ في نفسه كثيراً في الجاهلية، حتى ابتدعَ يوماً أسماه: يوم النعيم؛ يكافئ مَن يطلع عليه فيه ويقرِّبه، ويوماً أسماه: يوم البؤس؛ يقتل فيه أولَ من يدخل مملكتَه كائناً مَن كان، حتى قادتْ يوماً قدما شاعر عربي مشهور نحو حتفه في يوم بؤس ذلكم الملك، وهنا وقف الملك (العظيم): أوَغيرك يا عَبيد؟! وكان الملكُ يعرفُ عَبيد بن الأبرص ويقدِّمه لشهرته وعلوّ شِعره، لكن عظمتَه في نفسه أكبر من كل الناس، ولفرط غروره يغلو أكثر فيأمر الشاعر قبيل مقتله بشيء من شعره يترنَّم به، فتأبى على عَبيد نفسه أن يُسمعَه ما يسرُّه فيقول:

واللهِ إنْ مِتُّ مَا ضرَّني .. وإنْ عِشْتُ مَا عِشْتُ في واحِدَه
فَأَبلِغْ بنيَّ وأَعمَامَهم .. بأنَّ المنَايَا هي الوَارِدَه
فَواللهِ إنْ عِشْتُ مَا سَرَّني .. وإنْ متُّ مَا كانَتِ العائِدَه

لكن ذلك لم يردع الملك عن قتله؛ فغرور الـمُلك إن دار في رأس الحاكم يبلغ فيه فيتردَّى في دركاتٍ من الحماقة والتهوُّر يتردد من شدة هولها القارئُ أصحيحةٌ هذه أم لا!

ومِن سلالة ذلكم الملك كان مَن أمرَ بقتل طرفة بن العبد والمتلمّس الشاعرَين يومَ أن بلغَه عنهما هجاءٌ له، لكنه – بخلاف بعض ملوك اليوم! – حسب ما قد يقع إن قلتَهما عنده، فأرسلهما إلى عامله في البحرين بكتاب قتلهما، فمضى الشاعران وهما يحسبان أن الملك صادقٌ قد كتب لواليه في البحرين بمكافأة لهما كما قال؛ ففطنَ المتلمّس ففتح صحيفته فوجد فيها أمرَ قتله، وأبَى طرفةُ أن يفتح صحيفته حتى مضَى إلى والي البحرين وكان مقتله بالكتاب الذي حملَه بيده يظنّه مكافأة له.

حتى المرأة دفعت ثمن الكلمة، وما أقساه من ثمن! إنه الحياة. دفعت حياتها ثمن هجاء قالته حميةً منها وغيرةً نسويةً، فضاق بها أناس محسوبون رجالاً!

وأمّا نفي الكتّاب والشعراء ممن لا يمشون في جوقة المطبِّلين للحاكم فسنُّةٌ قديمةٌ في الملوك، لعل أقدم مَن فعلَها كما تروي كتب التاريخ عمرو بن لُحي المشهور في تراثنا في تغيير الحنيفية دين إبراهيم ونصب الأصنام في مكة، فلما اعترض شاعر من بقايا جرهم نفاه عن مكّة، فأرسل الجرهمي سهام شِعره وحفظها لنا التاريخ يسجّل استبداد الحكّام وضيقهم بمن يخالفهم وإنْ بالكلمة والبيت من الشِّعر!

فإن يكن عَبيد والمتلمِّس وطرفة وغيرهم رجالاً بطش بهم سادة القوم لأنهم خرجوا بكلماتهم عما يحبّون فلم تكن المرأة صاحبة الكلمة الحرّة خيراً حالاً؛ فغضوب من بني ربيعة تزوّج عليها زوجها، فغارت على عادة النساء ولأنها شاعرة هجت زوجها وقومَه ببعض شِعرها، فأوعدَها رجالٌ منهم، فلم تَأبَه لهم ونالت منهم تهجوهم. فلما سمعوا ذلك مشَوا إليها، فضربوها، فقُتلت.

 

فحتى المرأة دفعت ثمن الكلمة، وما أقساه من ثمن! إنه الحياة. دفعت حياتها ثمن هجاء قالته حميةً منها وغيرةً نسويةً، فضاق بها أناس محسوبون رجالاً! وزينب بنت عبد المدان خرجت عن خطّ القبيلة فامتدحت سيداً نزارياً وهي يمانيةٌ، فعاتبَها قومُها لذلك الأمر الشنيع، ولولا أنها من بيت سيادة فيهم لربما بطشوا بها، مع أنها لم تمدحْه حبّاً وعشقاً، بل لأن له يداً عليها في فكاكها ونسوةٍ معها من الأسر، فقالت لهم:

أَلَا أيُّها الزَّارِي عَلَيَّ بأنَّني نِزاريّةٌ أَبْكِي كَريماً يَمَانِيَا
وَمَالي لا أَبْكِي يَزيدَ ورَدَّني أَجُرُّ جَدِيداً مِدْرَعي ورِدَائِيَا

فالأمر هكذا خرج عن حاكم متسلط إلى مجتمع يضيق كذلك بالكلمة الحرة! والملك الذي قتلَ ونفَى وعذَّبَ أناساً كثيرين، لاسيما من المتمرِّدين من أصحاب الألسنة والكلمة الحرّة لم يعدم مَن يقول له:

فَلَا تَتْرُكَنّي بِالوَعِيدِ كَأنَّني إلى النَّاسِ مَطلِيٌّ به القَارُ أَجْرَبُ
فَإِنْ أَكُ مَظلُوماً فعَبْدٌ ظَلَمتَه وإنْ تَكُ ذَا عُتْبَى فَمِثْلُكَ يُعتِبُ

فهو عبدٌ للملك؛ وكم من عبيدٍ للملوك اليوم! ويقول:

أَلَم تَرَ أنَّ اللهَ أَعطَاكَ سَوْرَةً تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ
بِأَنَّكَ شَمسٌ والملُوكُ كَوَاكِبٌ إذَا طَلَعَتْ لم يَبْدُ مِنهنَّ كَوكَبُ

فإن لم يكن مثل هذا سبباً في تحفيزهم على البطش بمن لا يُسمعهم مثل هذه الكلمات المأجورة الرخيصة؛ فإنه يدغدغ الظالم ويهزّ له أعطافه: فإن كان سيدي مَن لا يعرف قدرَك ولا يُحسن القول معك فأنا عبدُك أقول ما تشتهي، ولك بي عنهم غنىً؛ فلسان حالهم: ابطش بهم؛ فلك مني كل ما يسرُّك من القول وإن رفض أولئك المتمرّدون!

الوطن الذي يسجّله الحاكم باسمه أو اسم أسرته قد يكون له يوماً أو عاماً أو مئة عام، لكنه يوماً سيلفظُه ويُمحى ذلكم الاسم مع الحاكم، ويعود الوطن لأهله ويعود أهله المنفيُّون والمهجَّرون إليه
الوطن الذي يسجّله الحاكم باسمه أو اسم أسرته قد يكون له يوماً أو عاماً أو مئة عام، لكنه يوماً سيلفظُه ويُمحى ذلكم الاسم مع الحاكم، ويعود الوطن لأهله ويعود أهله المنفيُّون والمهجَّرون إليه
 

وليس جلداً للذات أو نبشاً في مزابل التاريخ بعثُ هذه الأمثلة؛ إنما هو تاريخنا، الذي يحسُن بنا أن نقرأه جيداً، لنعرف أن الضيق بالكلمة قديم، وأن بطش الملوك بأصحاب الأقلام والألسنة الحرّة قديم كذلك، وعلينا أن نُحسن النظر في أسباب الأمر وعواقبه؛ فالأقلام المأجورة من المطلبِّين للحكام المستبدين، وكذلك الشياطين الخرسان لا يقلّون عن القتلة، ومديحهم للظالمين لا يقلّ عمن يقدّم لهم السلاح الذي فيه يفتكون بالناس.

ونتعلم من التاريخ أن عَمْراً هلكَ والأمّةُ حتى اليوم -وبعدَه- تلعنُه لاستبداده وتحريفه دِين العرب وعبثهم في حَرَمِهِم، ويبقى ذاك الجرهمي الشاعر وإن كان لنا مجهول الاسم والهوية؛ فالكلمة الحرة الصادق أحفظ في ذاكرة التاريخ من الملك والأمجاد الزائفة. نتعلَّم أن الوطن الذي يسجّله الحاكم باسمه أو اسم أسرته قد يكون له يوماً أو عاماً أو مئة عام، لكنه يوماً سيلفظُه ويُمحى ذلكم الاسم مع الحاكم، ويعود الوطن لأهله ويعود أهله المنفيُّون والمهجَّرون إليه!

نتعلَّم أن فساد الحكّام يؤثر في أخلاق الناس؛ فيفسدون، ولا ينجو إلا مَن عصمَه الله، ولو أننا دققنا النظر في كثير من الأحداث من حولنا لوجدَنا النظامَ الحاكمَ بريئاً -على إجرامه وظلمه- من مظالم ومفاسد كثيرة نجنيها على بعضنا، حتى صرنا نهمس: هذه تربية الأسد لعقود! وهذا ميراث آل فلان فينا لعقود! فالفساد إن عمّ في البلد لزم مع التورّع التنبُّه فهو يدخل البيوت والمؤسسات، فيُفسدها؛ والحكّام الفاسدون ينظرون ويتمتعون بذلك، لأنه يعزّز مكاسبهم؛ فبعض المخلوقات لا تعيش إلا في الأوساط المريضة والفاسدة!

قال الكواكبي: (أقل ما يؤثر الاستبداد في أخلاق الناس: أنه يُرغم حتى الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق؛ وَلَبِئسَ السَّيئتَانِ! وأنه يُعين الأشرار على إجراء غيِّ نفوسهم آمنين من كل تبعة ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح؛ لأن أكثر أعمال الأشراء مستورة، يُلقي عليها الاستبداد رداء خوف الناس من تبعة الشهادة على ذي شرٍّ وذكر الفاجر بما فيه)؛ والأحرار يهتكون أستار الخوف من الظلَمة، ويدفعون ثمن الكلمة الحرَّة، ليكونوا قرابين في طريق الحرية المنشودة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.