شعار قسم مدونات

إلى كارهي الحياة.. إليكم المنقذ!

blogs تأمل

هل تمر أيامك كلها مثل بعضها؟ هل سئمت من روتين حياتك القاتل؟ هل ضجرت من قلة أو انعدام فرصك في التطور؟ هل وقف حظك العاثر دون نجاحك؟ إذاً تعال معي كي أعرفك على هدى. هدى فتاة في منتصف العشرينات من عمرها، تعيش في إحدى القرى الفقيرة التي لم يساعدها قربها من مطار دولي من التطور واستقطاب السياح. قرية لا شيء فيها قد يدفع يوماً بسائح أو حتى ابن بلد إلى زيارتها سوى ليؤكد مجدداً أنه لا شيء يميزها إلا ضجيج الطائرات أثناء قلوعها وهبوطها في ذلك المطار القريب.

لم تشئ الأقدار كذلك أن تنجب إحدى نساء القرية فناناً مشهوراً أو رياضياً محترفاً أو حتى طالباً متوفقاً قد يرفع باسم القرية ويجعله مشهوراً حيث تشابه كل أهاليها ببساطتهم كما تشابهت حارات قريتهم فلا حجر يزيد ولا دكان ينقص بين الحارة والأخرى! أما هدى، فهي المنقذة التي قد تساعدك في إحداث التغيير الذي تصبو إليه! وما هي إلا ابنة أحد المنازل الفقيرة في تلك القرية والتي ولدت وبسبب زواج الأقارب بين والديها (أولاد عم) وهي مصابة بشلل دماغي أفقدها العديد من القدرات العادية التي قد تملكها أنت كالمشي والتحرك بحرية والكتابة والأكل ودخول الحمام بمفردها.

التقيت بهدى أول مرة من خلال مشروع يهدف لدمج الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة بالأطفال الآخرين من خلال أنشطة تقام في عطلة الأسبوع في مدرسة القرية. كانت هدى أكبرهم سناً وأكثرهم هدوءاً إلا أن هدوءها ما كان سوى من عزة نفسها وكرهها من شفقة الناس لها فكانت وسائلها الدفاعية جاهزة من عدوانية في الكلام وتجنب لأي كلمات ود قد تسمعها من المتطوعين المشاركين في البرنامج.

 

الإعاقة الحقيقية تكمن في المجتمع لا في الشخص ذاته عندما تولد بقدم ناقصة أو يد مفقودة فإنك قد لا تعرف حجم المصيبة إلا عندما يحيطك الناس بنظراتهم وتعليقاتهم التي قد تصور لك ذاتك بأبشع مما هي

كنت كذلك أحد المتطوعين واستطعت أن أقرأ رغبتها الملحة بتكوين الصداقات والمختبئة وراء قناع من البرود وعزة النفس. فما كان مني إلا ان تقربت منها كفتاة عادية ولم أظهر لها أية رغبة بمعرفة تفاصيلها بل قررت التعامل معها على أنها مجرد أحد سكان تلك القرية افتح معها احاديث اعتيادية واسألها عن قريتها، عن أمور قد يود معرفتها أي غريب ومن هنا بدأت ترتاح إلي إذ أنها كانت تفتقر لأحد يشعرها بأنها شخص عادي مثلها مثل أي شخص فبدأت علاقتنا وصحبتنا التي أدخلتني فيما بعد لعالم جديد كنت لا أعلم عنه سوى ما أسمعه وأقرأه عن ذوي الاحتياجات الخاصة وما يعانونه من نبذ المجتمع لهم حتى من أقرب الناس إليهم.

ولدت هدى لأسرة ذات خلفية ثقافية ضحلة مما جعل مرضها في عيونهم مصدراً للخزي والعار فكانوا يخبئونها عن الضيوف في كل مرة خوفاً من نظرات الناس وتعليقاتهم وقد كانت تختبئ لساعات في غرفتها وهي تسمع أحاديثهم خارجاً وتطوق لمشاركتهم بها مثلها مثل أي شخص آخر. أخبرتني هدى مرة عن قصة حبها لصديق أخيها، كيف أنها أحبت شاباً كان قريباً جداً من أسرتها وقد سمح لها بالخروج أمامه نظراً لقربه من الأسرة وكان بطبيعة الحال أول غريب تلمحه عيناها فوقعت بغرامه وأخبرته لجرئتها بحبها فما كان منه إلا أن سخر منها ومن إعاقتها واعتز بقدرته على الزواج من أحسن البنات وتركها جريحة القلب ومعاقة الروح قبل الجسد.

إن الإعاقة الحقيقية تكمن في المجتمع لا في الشخص ذاته عندما تولد بقدم ناقصة أو يد مفقودة فإنك قد لا تعرف حجم المصيبة إلا عندما يحيطك الناس بنظراتهم وتعليقاتهم التي قد تصور لك ذاتك بأبشع مما هي. قالت لي هدى مرة: لو استطعت أن تفتحي قلبي لوجدت فيه كمية من السواد لن تجدينها في أي قلب آخر. لم تستطع هدى نظراً لقلة مفرداتها -فقد اخرجها اهلها من المدرسة في عمر العاشرة- فلم تسعفها حينها مفرداتها للتعبير بدقة أكبر عن معاناتها إلا أن بساطة المفردات التي استخدمتها أوصلت لي ما ترغب في قوله أكثر مما قد توصله معلقات جاهلية مكتوبة بماء الذهب.

عندما تعطش هدى وتطلب الماء من أشقائها فإنهم ولقلة وعيهم يضحكون عليها ويطلبون منها مصروفها اليومي لقاء كأس ماء وإلا فستضطر للزحف طويلاً إلى المطبخ وانتظار مرور أي فرد من أفراد الأسرة والتوسل له كي يناولها كأس ماء. هل اضطررت يوماً إلى التوسل لأفراد أسرتك من أجل كأس ماء؟

ذهبت مرة في جولة إلى المدارس التي تقبل أطفالاً بشلل دماغي وكلي أمل في أن اجد لها منفذاً جديداً لتخرج من خلاله إلى العالم إلا ان جميع المدارس رفضتها لكبر سنها فقد كانت حينها قد تجاوزت الثامنة عشر من عمرها. وبعد أن فقدت الأمل بأن أستطيع تغيير حياتها قررت أن أقدم لها يوماً جميلاً قد لا تنساه أبداً فقررت اصطحابها برفقة والدي في رحلة في السيارة من قريتها إلى العاصمة حيث أقطن.

كان ذلك اليوم في نظر هدى هو عيد، كحلم لم تتصور يوماً أن يتحقق. فقد سمعت كثيراً عن العاصمة وأبنيتها العالية والمطاعم الكبيرة فيها إلا أنها لم تخرج يوماً من حارتها حتى تستطيع زيارة العاصمة. حينما وصلت صباحاً إلى القرية لاصطحابها برفقة والدي كانت تلبس أجمل ثيابها، فستاناً زهرياً مزيناً بعقد رخيص من اللؤلؤ.

 

حملتها بحب إلى السيارة وانطلقنا إلى العاصمة وأنا أتابع من قرب نظراتها إلى الأبنية والعمران والذهول في عينيها. أوصلنا والدي إلى مطعم معروف في العاصمة فقد قررت ولقلة معرفتي أن أعبر لها عن محبتي بعزومة على الغداء غير دارية بقلة شهية من هم بحالتها. وقد طلبت مختلف الأصناف راجية أن أراها تقبل عليهم بنهم ولذة إلا أنها وما أن بدأت الأطباق بالوصول حتى نظرت نظرة حازمة إليهم وقالت لي (وكيف سآكل من دون شوكة؟) لا أظن انها اضطرت سابقاً لاستخدام الشوكة ولا أظن أنها اضطرت اساسا للأكل بمفردها دون والدتها.

 

علمتني هدى حب الحياة والتفكر بأصغر النعم فيها. وأن أعلم أن الملل رغم كل النعم حولي ما هو إلا نكران لتلك النعم ولفضل الخالق علي

فترددت قليلاً ثم أجبتها (أنا سأطعمك!) قالت لي: (بل أريد أن آكل وحدي) ونادت النادل بثقة وطلبت منه شوكة. لقد ذهلت من ثقتها بنفسها وقدرتها على التأقلم السريع مع جو جديد كلياً عليها. لقد كانت رغبتها الحقيقية في الحياة والاستقلال تظهر مع كل كلمة ونظرة وكأنها تتوسل إلى الحياة أن تأخذها إليها بدلاً من أن ترميها في غرفتها وحيدة تضطر لإعطاء مصروفها لقاء كأس ماء أو حاجة للذهاب إلى المرحاض!

لقد علمتني هدى حب الحياة والتفكر بأصغر النعم فيها. وأن أعلم أن الملل رغم كل النعم حولي ما هو إلا نكران لتلك النعم ولفضل الخالق علي. إن كلمات هدى التي تنطقها بصعوبة كانت في كل مرة أشد وقعاً في نفسي من كل كلام الشعراء والكتاب والأدباء. فقد استطاعت بصدقها وعفويتها أن تؤكد لي جمال الحياة التي استطعت يوم رحلة العاصمة أن اراها في عينيها الأسيرتين في ذلك الجسد المعاق. إن كنت حقاً ترى أن حياتك ما هي إلا حظ عاثر يليه آخر فتوقف قليلاً وفكر.

 

قصة هدى انتهت هنا ولا أعلم حالياً أي خبر عنها. فقد اضطررت للسفر خارجاً وبات التواصل بيننا من خلال الواتساب إلا أن هدى لم تكن تستطيع الكتابة وكانت تكتفي بارسال الورود والقلوب كل يوم وأنا ابادلها الورود بالورود وبعض الكلمات آملة ألا تضطر لدفع مصروفها لأحد اشقائها لكي يقرأ لها رسائلي. ولكن شقيقها الأكبر كان قد ارتأى أخيراً إلى أنها لا تحتاج إلى هاتف ولا إلى رقم فأخذ منها جوالها ورقمها وأحلامها الصغيرة وقطع تواصلي معها وقطع عنها الذكريات البسيطة التي كانت تعني لها الكثير الكثير. ولا زلت أذكر صوتها يقول لي: آنسة رغد أرجوك لا تتركيني.

لم أتركها بإرادتي ولكن الحرب أبعدتني وجهل أهلها حال دون أقل حد من التواصل بيننا. والآن وبعد مضي سنوات عديدة لا زلت أذكر عيون هدى المذهولة في رحلة العاصمة والسواد في قلبها الذي استحال حينها قوس قزح وهي تسرق لحظات من الحياة كي ترسمها لاحقاً في ذاكرتها بين جدران غرفتها وحيدة. فهل لا زلت تظن أن حياتك بلا معنى؟

إن هدى ما هي إلا مثال واحد من العديد من الناس الذين لا ننتبه غالباً إليهم فهم لا يريدون أن يثيروا شفقتنا ويفضلون العبور بسلام في ذاكرتنا خائفين من نظرة شفقة او تعليق ساخر ومكتفين بوحدتهم في الحياة وأكبر أحلامهم هو أن يستطيعوا المشي أو الكلام أو التحرك بمفردهم مثلنا. فما أكبر قلوبهم وما أفقر قلوبنا عندما تجحد بنعم الله علينا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.