شعار قسم مدونات

أين الجثة طال عمرك؟

BLOGS بن سلمان

يعرّف الأباراتشيك اصطلاحا بالموظف المحترف والمنضبط داخل الحزب الشيوعي أو الحكومة تحت إمرة مجلس السوفيات الأعلى في نظام كان شعاره المنجل والمطرقة. وهو عميل الجهاز الذي توكل إليه عدة مهمات تنفيذية صلب الإدارة البيروقراطية من دون أن يخضع للتدريب اللازم أو يمتلك المهارات الضرورية غير الولاء المطلق. والآن بعد أكثر من ربع قرن على اختفاء المجلس طيّب الذكر، تحوّل المنجل بقدرة قادر إلى منشار والمطرقة إلى سيف وشهد الشرق الأوسط أبشع جريمة استدراج وقتل داخل قنصلية أبطالها مجموعة أباراتشيك غير منضبطة في مفارقة عجيبة مع المعنى الأصلي للعبارة الروسية.

جاءت المجموعة المارقة، كما وصفها الرئيس ترمب، إلى اسطنبول من أرض الحرمين وهي منها براء لاغتيال الصحفي جمال خاشقجي. جمال الذي قُتل غدرا داخل قنصلية بلاده في اسطنبول وبكته بحرقة زميلته في الواشنطن بوست كارين عطية ومن ورائها أحرار العالم ليس له من ذنب غير إعلانه الخروج من تحت خيمة الذل وتنفس الحرية.

بين دموع كارين عطية الحارّة، التي أثارت تعاطف الملايين حول العالم، وقصة المجموعة المارقة سيئة الإخراج من حكّام الرياض يغيب الجسد الطاهر للمغدور به وإذا سلمنا بضرورة وجود جثة لكل جريمة قتل فلسائل أن يسأل ببراءة أين الجثّة طال عمرك؟ أين أخفت الشلّة المارقة ما تبقى من عطر رجل تنفس الحرية غلابًا؟ إنّه السؤال الذي تضج به الأفواه والعقول والأفئدة حول العالم بأسره. السؤال الذي من غير الممكن نسيانه أو التغافل عنه أبدا. وكل محاولة هروب من الإجابة الشافية عنه ستجعل طيف جمال خاشقجي يطارد طال عمره ومجموعته من الأباراتشيك صباحا مساء ويوم الأحد.

لا مفرّ من إعادة صياغة أسس الحكم في المملكة بدءًا بالانفتاح السياسي الحقيقي الذي يتيح للسعوديين المشاركة في إدارة شؤون بلادهم مرورا باحترام حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية

طال عمره، ولي العهد الذي حُشر في الزّاوية تحت قصف إعلامي رهيب وتهديد مستمر بفرض العقوبات على بلاده من الكونغرس الأمريكي والاتحاد الأوروبي وجد نفسه، فجأة، تحت المطر المتوحش من دون معطف، وحيدا، بلا أصدقاء وفي حالة من الفزع الرهيب. قفز الجميع من المركب قبل غرقه. وتعالى الصراخ بين جدران مبنى الكابيتول المهيب في واشنطن طلبا للحقيقة بعد أن كان المقيمون فيه حتى وقت قريب من الثقاة الأوفياء للشاب الطّموح المحدّث الملهم.

موحشة هي الوحدة، تحت زخات الاتهامات بالقتل والتدبير له والتستر عليه. كما هو موحش المشهد التراجيدي للأمير يصافح صلاح خاشقجي، يعزيه في وفاة أبيه. يا ترى من يعزي من؟ وظهرت للعالم صورة. صورة أبلغ من ألف حرف لعيني صلاح في رحلة بحثهما الموجعة عن الحقيقة بين طيات الوجه الشاحب والمرهق ولعلّ اليتيم سأل: أين الجثة طال عمرك؟ أين أخفيت ما تبقى لي من إرث عزيز؟ أين أخفيت الأوراق الأخيرة، الابتسامة الأخيرة المغتصبة من جور الجلادين، الدمعة الأخيرة، الأحلام الكبيرة.. أين الوطن؟ الوطن الذي أراده بن سلمان له وحده، لا يشاركه فيه أحد. أراده على مقاس خمسين عاما مفترضة من الحكم بلا منازع، بلا رجال الدين الذين اعتمد عليهم آباؤه في تثبيت شرعيتهم طويلا، بلا أمراء وبلا حرية.

والأن بعد تكشف بعض خيوط الجريمة النكراء وتوجه أصابع الاتهام للأمير ولو تلميحا فإن الطّموح، المحدّث، المتحمس وعديم الخبرة وجد نفسه في ورطة كل أبواب الخروج منها ملغومة. فاعتراف علني أو حتى ضمني بتورطه في الجريمة سيطيح به من ولاية العهد من دون شك ولن يهدأ بال للمجتمع الدولي حتى يحاكم. أما السكوت والإنكار كما هو متوقع سيزيد من عزلته دوليا فضلا عن الكلفة الغالية لشراء صمت القادة والحكومات. لا مفرّ طال عمرك.

لا مفرّ من إعادة صياغة أسس الحكم في المملكة الغنية بالموارد النفطية لتبنى في تناغم مع القيم الإنسانية. بدءًا بالانفتاح السياسي الحقيقي الذي يتيح للسعوديين المشاركة في إدارة شؤون بلادهم بدل الانغلاق والقمع، مرورا باحترام حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وصولا إلى إرساء دولة القانون الذي يتساوى أمامه الحاكم والمحكوم.

الحاكم الذي لابد له من شرعية حقيقة مستمدة أساسا من المحكوم. يفوض الثاني الأول لإدارة شؤون الدولة وفق ضوابط متفق عليها مسبقا حتى لا يتحول الحكم إلى أوليغارشية. والأوليغارشية في مفهومها العام والمباشر، هي حكم الأقلية لشعب ضمن أطر دولة. كان أفلاطون أوّل من أشار اليها في كتابه "الجمهورية". وحكمها لا يكون بغير القمع مستندا إلى طغمة من أصحاب النفوذ المالي والعسكري والإعلامي. غير أن الأخطر في أوليغارشية العصر أنها تسند إلى النفوذ الأجنبي بحيث تكون الدولة مرتعا خصبا للعملاء والمرتزقة.

أولئك الذين اعتمد عليهم الشاب الطّموح المحدّث في تثبيت سلطته انفضوا من حوله حتى قبل أن يسقط. تركوه ليواجه وحده تهمة بالقتل مع سبق الإصرار والترصّد
أولئك الذين اعتمد عليهم الشاب الطّموح المحدّث في تثبيت سلطته انفضوا من حوله حتى قبل أن يسقط. تركوه ليواجه وحده تهمة بالقتل مع سبق الإصرار والترصّد
 

لا شك أن الاستناد إلى الدعم الأجنبي يعد السّمة الأبرز لحكام الّرياض الحاليين والسّابقين غير أن محمد بن سلمان فاق كل التوقعات باعتماده على هذا الدّعم خاصة الأمريكي منه مما أطلق يديه في حملة قمع رهيبة شملت كل من خالفه الرأي أو نافسه على الحكم. ورغم أن الجميع في انتظار القرار النهائي للبيت الأبيض بخصوص هذا الدعم فإن الوزن السياسي للأمير الشاب، داخليا وخارجيا، نقص بشكل فادح. وبقي على الملك سلمان أن يختار بين الإبقاء على ابنه وليا للعهد وحشر المملكة مع الدول المارقة والمنبوذة أو التضحية به من أجل بقاء الأسرة الحاكمة وهو ما يستبعده أكثر المحلّلين السياسيين تفاؤلا.

"لن أتعامل مع السعودية مرة أخرى ولن أعود إليها ما دام هذا الصبي يتولى المسؤولية". الكلمات لليندسي غراهام العضو البارز في مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري وهو الذي كان حتى وقت قريب من أشدّ المدافعين عن العربية السعودية في الولايات المتحدة. السيد غراهام ليس الوحيد الذي سحب البساط من تحت أقدام بن سلمان بل لحق به اخرون من الحزبين يجمعهم الرفض لطريقة معالجة الرياض للمسألة ورفضهم لمحاولتها ابعاد التهمة عن ولي العهد.

أولئك الذين اعتمد عليهم الشاب الطّموح المحدّث في تثبيت سلطته انفضوا من حوله حتى قبل أن يسقط. تركوه ليواجه وحده تهمة بالقتل مع سبق الإصرار والترصّد. ألم يعلم قبل هذا الوقت أن شرعية الحكم الحقيقية لا يمكن أن تشترى بحفنة دولارات؟ أفات من بايعه الشيوخ على المنابر أن قوّة الحاكم تبنى بما ينجزه لا بمن يقتله؟ أين الجثة طال عمرك؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.