شعار قسم مدونات

ظلم العباقرة.. ماذا تعرف عن زكي مبارك؟

BLOGS زكي مبارك

كانَ زكي مُبارك عاشقاً للعربيّة، مُكافِحاً بِها ومُنافِحاً عَنها، يعلمُ جيّداً أنّ لُغةَ الشّعبِ هُويّتُه، فقد كانتْ عُرُوبَتُهُ لَها أصلٌ ثابتٌ فِي جَنانِه، وفَرعٌ لائحٌ فِي لِسانِه، تجري مِنهُ مجرى الدّم، وترشحُ عِطراً زكيّاً مُباركاً. محطّاتٌ ثلاثٌ فِي حَياتِهِ صيّرَتْ قلبَهُ مُثلّثَ حُبٍ كانتْ رُؤوسَه، قاهِرةُ مِصر، وباريسُ فرنسا، وبغدادُ العِراق، بين هذه وتِلك قَصَصٌ وحَكايا، ورِحلاتٌ وأسْفار، تَسُوقُها الأقدار، مُتمثِّلاً قولَ الشّافِعيّ:

سأضرِبُ فِي طُولِ البلادِ وعرضِها
أنالُ مُرادِي أوْ أموتُ غريبا
فإنْ تَلِفَتْ نفسِي فللهِ دَرُّها
وإنْ سَلِمَتْ كانَ الرُّجوع قريبا


فحظيَ بِسلامةِ النّفس، والرُّجوع إلى الدّيار، ونيل المُراد، ثلاثةٌ بِثلاثِ شهادات دكتوراه عانَى الأمَرّين فِي سبيلِها، ولقيَ الشّقاء فِي تحصِيلِها، وقدْ كانَ دونَ الواحِدةِ مِنها خَرطُ القَتَاد، وسَفُّ الرّماد. هَا هُوَ ذَا قدْ حطَّ رِكابَهُ فِي مِصر، وآمالُهُ كالبُنيان تتعالى مع تقادُمِ الأزمان، وقدْ عَلتْ القِمَمَ الشّمّاء، وناطحَتْ عَنانَ السّماء، فقد أُطلِقَ عليه لقب "الدّكاتره" لِما نالَهُ مِن الشّهادات شَرقاً وغَرباً، وتخرّجَ مِن جامِعةِ السّوربُون بعدَ أطرُوحتِهِ للدكتوراه بِعُنوان "النّثر الفنّي فِي القرن الرّابِع" الهِجريّ، فقدْ كانَ يطيرُ كُلّ مَطارٍ فَرِحاً بِهذا الكِتاب الذي يَراهُ تُحفةَ زمانِه، وسابِقةَ أوانِه، لمْ يأتِ أحدٌ بِشبهِه، فضلاً عن مِثلِه، ناقشَهُ فِيه عُتاةُ مُستشرِقِي فرنسا، وقد خالفَ نظريّاتهم، وزيّفَ ادعاءاتهم، وكبّلَهُم بالحُجج والبراهِين الدامِغة التي ما اسطاعوا معها حَراكا، ولا استطاعُوا مِنها فِكاكا، فأرغمَهُم على التّسليم لِما جاء بِه، وخطفَ شهادتَهُ مِن فمِ الثُّعبان.

بدأتْ تسيرُ الأُمور على خِلاف ما كانَ يرجُو، وجَعَلَتْ تنحرِفُ بوصلةُ حياتِهِ انحِرافاً مُوْدٍ إلى حُفرةِ الهَلاك، فعلى إِثْرِ خِلافاتٍ بينَهُ وبينَ طه حسين وجدَ نفسَهُ خارِج أسوار الجامِعة التي يُدرّسُ فِيها، وعلى المِنوالِ نفسِهِ خسرَ وظائِفَهُ تِباعاً، وحُورِبَ فِي رِزقِهِ مِن كُلّ حَدَبٍ وصَوب، حتّى غدا بِلا مصدرٍ للمال يستعينُ بهِ على قُوتِ نفسِهِ وعِيالِه، ثُمّ تأمّلَ حالَهُ وإنجازاته، فوجد بين يديه ثلاثَ شهادات دُكتوراه، وخمساً وأربعين كِتاباً اثنان مِنهُما باللّغة الفرنسيّة، وأكثر مِن ألفِ مَقالٍ فِي الصّحف المُختلِفة، ثُمّ ينظُرُ لِمَن هُم دُونَهُ بِمرّات، فيجدهم قدْ وصلوا إلى مناصِبَ عُليا؛ لأنّهم أحسنوا التّملّق، والنّفاق، والتّزلّف لدى أصحاب النّفوذ والسّلطة، أوْ لِصلاتِ قرابةٍ تجمعُهُم بِهِم، أو جَرّاء ارتمائهم فِي أحضانِ أحزابٍ ثمّنتْ جُهودَهم، ورَفعتْ مَقامَهم، فوَصلوا إلى غايتِهم بثمنٍ بَخس.

غرِقَ زكي مبارك فِي الخمرِ فصارَ يزيدُ كأساً، كُلّما زادَت الحياةُ بأساً، وأمسَى غريبَ الحال فِي وطنِه وبين أهلِه، يتجرّعُ مرارةَ الزّمان سُمّاً زُعافاً يُقطّعُ أوصالَه

كانَ ذنبُهُ صِدقُهُ معَ نفسِه، وصراحتُهُ مع الآخرين، فلمْ يكُن يتكلّفُ إظهارَ ملائكيةٍ مُصطنعة، ولم يكُن شيطاناً بِزيّ الرُّهبان، وما كانَ لِيضحكَ فِي وجهِ امرءٍ يوماً وقلبُهُ مُكْفَهِرٌ ومُتَجَهِّمٌ له، أوْ يتودّدَ لِشخصٍ وهو يُضمِرُ فِي نفسِه حاجةً لأجلِها كان الوُدُّ المَزعوم. ساءتْ حالُهُ جداً بعد أنْ هُدِمَ عليه بِناءُ الآمال الذي مكثَ سِنينَ فِي تشييدِه، وكان يُكرّر قولَهُ: "ما أشقى أنْ يعيشَ الإنسانُ فِي بِلادِه عيشَ الغُرباء"، وازدادتْ حالتُهُ تعقيداً يوماً بعد يوم، فصار كطائرٍ خَرّ مِن السّماء. وابتعد عن السّاحةِ الأدبيّة، وصارَ إنْ كتبَ -وقليلٌ ما يفعَل- يَظهرُ على أُسلُوبِهِ أنّ أمراً ما قدْ داهمَهُ أحالَهُ إلى شخصٍ آخر، فقد ذهبَ أسلوبُهُ الجميل الذي عُرِف بِه، وذهب ذلك الكاتِبُ الذي كان يُضحِكُكَ حِين يحكي، ويُشجيكَ حِين يبكي، والذي قال فِيه مُعاصِرُه الأديب عليّ الطنطاوي: "كان صاحِبَ أجملِ أُسلوبٍ فِي عصرِه".

وغرِقَ فِي الخمرِ فصارَ يزيدُ كأساً، كُلّما زادَت الحياةُ بأساً، وأمسَى غريبَ الحال فِي وطنِه وبين أهلِه، يتجرّعُ مرارةَ الزّمان سُمّاً زُعافاً يُقطّعُ أوصالَه، هكذا هِي النّفسُ البشريّةُ حِينما تتعرضُ للضّغوطِ والمصائِب، وتُحِيطُ بِها الآلام والأحزان مِن كُلّ مكان، فتبدأُ هذه النّفسُ في رِحلةٍ بحثاً عن طريقٍ للخَلاص، فحِيناً تهرُبُ إلى دائِرةٍ لعينةٍ مِن دوائرِ الإدمان، وتبقى تدورُ فِيها ولا تُراوِحُ مكانها حتّى تُستَهلَك فتحترِق، ونفسٌ تقعُ فريسةً للأمراض النّفسيّة فتبدأُ تنفصِل تدريجيّاً عن الواقِع؛ لِتبني واقِعاً آخر ممزُوجاً بالهلاوِس والأوهام فتُصاب بالفُصام، أو يهجم عليها شبحُ الاكتئاب، وتأخذُ بالانحدار حتّى تَصِل الانتحار، ونفسٌ يستيقظُ فِيها نِداءُ الفِطرةِ فتجأرُ ضَارعةً إلى السّماء تطلُبُ العَون واللّطف.

كما أنّ الهُدوء يَسبِقُ العَواصِف فإنّ العَواصِفَ مُؤذِنةٌ بِصمتٍ مُطبِق، فِي شارِع عِماد الدّين يترنّحُ زكي مُبارك حتّى يَسقطَ مغشيّاً عليه، كَرِهَ الحياةَ فكرِهَتْه، وأراد مُغادرتَها فغادَرَتْه، نَزَفَ دَمَهُ حتّى استُنزِفَتْ حياتُه، فقد كان الموتُ أقربَ إِليه مِن سيّارةِ الإسعاف، نُقِلَ إلى المَشفَى ولِسانُ حالِه يقول: "ولا أرى الطّبَّ هذا اليومَ ينفعُنِي"، كانتْ حالَتُهُ تستلزِمُ عمليّةً جِراحيّة، فأجريتْ لهُ وباءتْ بالنّجاح، وماتَ بالرّغمِ مِن كُلّ شَيء، فقد ماتَ باطِنُهُ قبلَ موتِ ظاهِرِه. رَجُلان هُما غَيضٌ مِن فَيض، وقطرةٌ مِن بِحارٍ بالأسَى تتدفّق، قِصَصُهُمْ وُلِدتْ مَنسيّة، وحَياتُهم غدتْ حبيسةَ الكِتمان، شذراتٌ مِنها مدفونةٌ فِي بُطونِ الكُتب، وكثيرٌ منها قدْ وُسِّدَ التّرب، و"لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.