شعار قسم مدونات

مشكلة "الله" في العلم الحديث!

blogs تأمل

حسب العلم الحديث، ما إن بلغت سلسلة التطور في الرئيسات إلى الهومو سابييس Homo Sapiens، حتى تمكن هذا الفصيل الطبيعي من امتلاك شيء جديد تماما وغير مسبوق، وهو "الخيالFantasy"، وبه شيد الإنسان العاقل طبقة أخرى -بعد "طبقة الواقع"- من طبقات التعاطي مع الوجود، وهي "طبقة الثقافة"، ومنها تكونت المفاهيم الرمزية في ثقافات الشعوب كـ"مفهوم الإله" (Yuval Noah Harari .2014).

ويقر الكثير من علماء الأديان كما يؤكد الواقع أن سبب استدعاء الإنسان لمفهوم الإله، جاء في سياق البحث عن إجابات مفسرة لطبيعة وظواهر الوجود، حيث سقط الإنسان -البدائي- في بوتقة الاندهاش من عظمة وتناسق وجمال الطبيعة والكون، ما حدى به إلى البحث عمن أخرج هذا النسق العظيم إلى حيز الوجود، فكان خيال الإنسان في الموعد وصاغ مجموعة من الأجوبة الأسطورية في أول الأمر التي تدور حول مفاهيم رمزية كالآلهة والشياطين والملائكة وغيرها، هكذا يتضح أن مفهوم الإله في صيغته المبدئية ليس إلا تعبيرا عن الأجوبة التي اقترحها الإنسان بخياله عن الأسئلة الوجودية التي ما فتئ يطرحها منذ ظهوره فوق كوكب الأرض، فالإله يفسر كيف ظهر الكون والإنسان والحياة، وهو نفسه من يحدث الأحداث ويجري الظواهر، وبالتالي فكل شيء يفسره الإله وذلك ما يخرج الإنسان من الاندهاش الأول من عظمة الكون ويوفر له الطمأنينة بأنه ليس مجهولا ووحيدا في هذا الكون الفسيح، وإنما مُرافقا ومُعتنا به من طرف قوة جبارة، لا يُخشى شيء تحت عنايتها، (فراس السواح. 2016).

الإيمان في القرون الوسطى كان هو المدخل الوحيد في أفق تفكير هذه العصور لفهم العالم والإنسان وكل باقي الظواهر، ما استدعى اندماج الدين والعلم والإله في بوتقة واحدة

ومع ظهور الفلسفة اليونانية سوف تحدث خلخلة في المنظور الأسطوري للعالم، وبإزائه سوف يفصل الإله عن التفسير العلمي للعالم، وهو ما جسده "طاليس" باقتراحه الماء كأصل للوجود عوض خلق الآلهة كما كان سائدا، وهو ما استحق به طاليس لقب "أول فيلسوف في التاريخ" حسب نيتشه (فريدريك نيتشه، مترجم. 2005)، وبعده سوف تتناسل التفسيرات العقلانية لظواهر الوجود المبتعدة نسبيا عن إقحام الآلهة في تفسير العالم، غير أن ومع نكسة القرون الوسطى التي سوف تعرف ظهور أكبر ديانتين توحيديتين وهما المسيحية والإسلام.

 

إذ سيحدث مع صياغة ثقافة هذين الديانتين عودة محمومة إلى البراديغم القديم، حيث سوف تعرف كل علوم القرون الوسطى الزواج بين الإله والعلم، وخير معبر عن المناخ الفكري لهذه العصور هو قولة المسيحي القديس أنسيلم: "أنا أومن كي أفهم"، ما يعني أن الإيمان في القرون الوسطى كان هو المدخل الوحيد في أفق تفكير هذه العصور لفهم العالم والإنسان وكل باقي الظواهر، ما استدعى اندماج الدين والعلم والإله في بوتقة واحدة، وهو ما يفسر ظهور كتب فلسفية في هذه الفترة تحاول التأكيد على توافق الدين مع الفلسفة والعلم كبعض كتب الكندي والفرابي وابن رشد وابن ميمون وكوما الأكويني.

 

إضافة إلى مدونات علمية تعتبر الإله أهم جواب وأحسن تفسير لظواهر الطبيعة، بل سوف يعتبر هذا الجواب مقدسا غير قابل للشك ولإعادة المراجعة، ذلك ما سيساهم في تخلف العلم إلا هامشيا من خلال التضييق على باقي التفسيرات العلمية غير المتدثرة بعباءة الآلهة، بل سيصل الوضع بأصحابها إلى القتل والتشريد، كجوردانو برونو وابن رشد، هكذا شكل مفهوم الإله الإبستيمولوجيا أو نظرية المعرفة الخاصة بالقرون الوسطى ونظرتها إلى العالم والإنسان والوجود.

غير أنه ومع بلوغ العصر الحديث خصوصا الفترة ما بين 1450-1700م، سوف يحدث انقلاب وستتم العودة إلى البراديغم اليوناني الفاصل كليا بين التفسير العلمي للوجود والمفاهيم الرمزية لثقافة الشعوب كمفهوم الإله، حيث سوف تتشكل ابستيمولوجيا حديثة، تتأسس على البحث في أسباب الظواهر انطلاقا من الإيمان بأن هذه الأسباب توجد في العالم وليست متجاوزة له (أي ليست ميتافيزيقية)، بمعنى أن الزلزال مثلا كظاهرة طبيعية فإن سببه يوجد في الأرض وليس مركونا في عالم غيبي يتحكم في هذه الظاهرة، وقس على ذلك كل ظواهر الطبيعة، فكل أسبابها الموضوعية المتحكمة في سيرورتها توجد فيها ولا علاقة لها بقوى غيبية، وفي سياق هذا التحول سوف يعرف "مفهوم الإله" أزمة عويصة، باعتباره نظرية معرفة تحتوي على تفسيرات مقدسة، إذ مع تناسل النظريات العلمية الحديثة وتحقيقها نجاحات متتالية بمنهج علمي تجريبي، سوف تتراجع مكانة الإله في العلم إلى أن ينسحب كليا في العلم الراهن .

إذ مع تطور ظاهرة "العلم الحديث"، الذي سيقوم على افتراضات علمية ويحاول اختبار صحة كل منها، سوف يتحول الإله في إطار هذا التقدم العلمي هو الآخر إلى مجرد "فرضية تفسيرية"، يتم التعامل معها من قبل العلماء على اعتبار أنها قد تكون صحيحة أو قد تكون موهومة وأسطورية، ومع تعذر التحقق من فرضية الإله نظرا لطبيعتها الرمزية، ومع كذلك إمكانية التحقق تجريبيا من فرضيات أخرى، أتبث نجاعتها التفسيرية، فإن فرضية الإله أسقطت من أجندت الكثير من العلماء المحدثين والمعاصرين، إذ ستظهر بإزاء ذلك ما يسمى بظاهرة "الإلحاد" في صفوف العلماء، إذ أن أغلبهم في الفترة الراهنة ملاحدة ولا أدريين، أو في أحسن الأحوال ربوبيين أو لادينين، أي مؤمنين بانتفاء وجود الإله المفسر لظواهر الوجود الذي بشرت به الأديان.

مع تقدم العلم، تتحتم ضرورة إعادة النظر بشأن طبيعة
مع تقدم العلم، تتحتم ضرورة إعادة النظر بشأن طبيعة "مفهوم الإله"، بطريقة تجنب الصدام الذي لا يمكن إلا أن ينفي وجود أحدهما (الإله أو العلم)
 

والمتأمل لكتب هؤلاء العلماء، يلاحظ بأنهم يرفضون "الإله" ليس انطلاقا من اعتباره أفقا روحيا أو تجربة روحية خاصة، وإنما انطلاقا من اعتباره "فرضية فاشلة" في تفسير الوجود، متذرعين عوض ذلك بتوفر فرضيات أخرى ناجحة وناجعة تفسيريا وتحليليا أكثر من فرضية الإله، هكذا فالعَالِم أو الباحث الحديث يتعطى مع الإله كفرضية فقط إذا تثبت له صحة ونجاعة فرضيات تفسيرية أخرى، فإنه يسقطها ويتخلى عنها بكل بساطة، ومن هنا يظهر أثر الممارسة العلمية على الإيمان الرمزي للعلماء الكبار في العالم، بل من هنا تظهر وطئة العلم الحديثة التقوضية للعناصر الرمزية من ثقافات الشعوب التي في طليعتها مفهوم الإله.

هكذا فمع تقدم العلم، تتحتم ضرورة إعادة النظر بشأن طبيعة "مفهوم الإله"، بطريقة تجنب الصدام الذي لا يمكن إلا أن ينفي وجود أحدهما (الإله أو العلم)، إذ سيكون من الأفضل لللاهوت المعاصر الاجتهاد في إعادة صياغة "مفهوم الإله"، وتحويل فاعليته إلى خارج ميدان العلم، أي صياغة مفهوم جديد لا يختزل الإله في تفسير العالم وإنما في إعطاء معنى فقط له، وذلك في أفق المصالحة بين النظرة العلمية الموثوقة للعالم والتي لا يمكن أن تكون خاطئة، والإيمانيات الشخصية للأفراد، وعناصر الثقافة الرمزية للشعوب كالأديان.

أو عوض ذلك وهذا حل متعذر، تفكيك الأسس الإبستيمولوجية للعلم الحديث، وإعادة بناءه بشكل يجعل الإله حجر الزاوية في التفسيرات العلمية كما كان سائدا في القرون الوسطى، وهذا الجمع بين هذين المكونين كما أثبتت التجربة التاريخية لا يساهم في تقدم العلم وإنما في تخلفه، ومراكمته ما يفيض عن حاجة البشرية من اليقينيات والدوغمائيات المقدسة الغير قابلة للمراجعة والاختبار، وبذلك فإن هذه الردة غير ممكنة خصوصا في سياق نجاح العلم وفق بنيته الحديثة، وتسهيله لحياة البشرية وتقديمه تفسيرات صائبة وناجعة جدا لظواهر الطبيعة والكون والإنسان والمجتمع. وفي غياب المقترح الأول أي إعادة صياغة مفهوم الإله دون تحميله حمولة تفسيرية لظواهر الوجود، سوف تحدث إما قطيعة بين البشرية (أو جزء منها على الأقل) ومفهوم الإله بمعناه القديم، أو قطيعة بين البشرية وممارسة العلم وفق أساسه الإبستيمولوجي الحديث، أو الجمع المتناقض بينهما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.