شعار قسم مدونات

من جزيرة العرب إلى ماليزيا.. هذه قصتي مع الماليزيين!

blogs ماليزيا

أوقفني ضابط مرور على جانب الطريق آخر الليل؛ أحمل رخصة دولية للقيادة لم يقتنع بها وطلب رخصة ماليزية.

– "أنتم في بلدي، عليكم احترامها".

– "صحيح.. ظننت أن الرخصة الدولية وقيادتي المؤدبة تفي بالغرض".

لم يكن تلطفي ليغني عن دفع "هدية" بعد طول نقاش تكثر فيه أقوال "كيف نحل المسألة؟" في إشارة خفية للمال.. سيد الحلول وصانع معجزات التفاعل.. لا اعتراض على القانون حال وجوده والأفضل مني إصدار رخصة محلية حال الإقامة بالبلد. ليست القصة هنا على كثرة التعليقات فيها.. تبدأ قصة التدوينة عند استلامه للمال وتغير ملامحه، يبدو ضعفه وتردده وآثار التألم الداخلي عليه واضحا في تلك اللحظات، تستطيع تثبيت هذا الألم بنظرة صامتة وطويلة تراه فيها على غير دوره المناط به حاميا للعدالة في البلد.

يتكرر هنا المشهد بشواهد مختلفة في كلا الشعبين؛ محاولة رمي الذنب على الآخر وإثبات الخير في دوافع التصرف.. صديقنا الضابط أشار لمسدسه وقال بفخر: "أتراه؟ يوما ما سنحارب إسرائيل به"! عجبي لعظمة المقولة وشعبها ووجودها الدائم في المزاج والتربية الحكومية والشعبية في ماليزيا، وعجبي لوقتها وسياق استخدامها مع صديقنا في هذه الحادثة الطريفة. انتهت القصة به عظيما يحمي البلد من جديد.

وهكذا على شواطئ التفاعل بين الثقافتين تكثر الكلمات التي تريد رفع عبء الذنب عن الأنا والنحن، ورميه على الآخر. كثيرا ما يقول الأصدقاء عند حديثنا عن التحديات التي كانت تواجهنا في البلاد: "هم هكذا".. عن الماليزيين وعلى غرارها من الجمل النصف صحيحة التي توحي بالخطأ كاملا على الشعب الآخر دونما إشارة لنا.

 

نحن هكذا كلنا.. بشر نتغير ونغير، فينا الخير والشر، تنوع الأمم عامل قوة لو ثبت التعاون وترسخ التفهم.. إذا توقفت محاولاتنا الايجابية تجاه بعضنا؛ توقف تطورنا جميع

بطبيعتي أهتم بالدلالات أكثر من الكلمات.. كثيرا ما يقول هذه الكلمة أشخاص تجردوا وسعوا بجد للاندماج الإيجابي والنظرة الموضوعية للمجتمع عند التفاعل معه.. لكن كثيرا من قائليها يطلقونها حتمية سلوكية على الأخر تجعل من كل سلوكه السلبي- أو غير المبادر أقلها- حالة طبيعية لا ذنب على الضمير فيها ولا وخز.. هم هكذا؟ ألسنا هكذا كذلك؟ ألا يتغيرون ونتغير؟ هل يعني سوئهم في صفة ما أن يكونوا دائما "هكذا".. سيئين دائما؟ وهل نحن "هكذا" أخيار دائما؟! "هكذا" هذه جملة مرعبة، فيها تتجلى حدية الأحكام وتطرفها.

الفلسطينيون مثلا حالة "هكذا" عند كثير من الماليزيين.. شعب تتعاطف معه وتحبه لانتمائه للأرض الفلسطينية فقط. هذا مخيف جدا.. لأن مجرد احتكاكٍ عال بين الشعبين سيظهر لكلاهما أن الصورة البشرية حاضرة ولو في كفاح الشعب وبطولاته وجهاده وجهوده الهائلة في الخارج لاسترداد حقه.  هذه الحالة التي يبدو فيها الفلسطيني مثاليا مخيفة ببساطة لأنه ليس كذلك. فينا من أرذل أهل الأرض -على الشاشة لو بحث القارئ- كما عند غيرنا، وفينا من خيرهم أيضا.

 

كنت مرة في جزيرة نائية مع الأصدقاء؛ جلسنا مع "حلمي" مواطن يعمل بسياحة القوارب مختلف لحد ما عن الغالب الشعبي المسالم والوديع، ترى ذلك من أثار المعارك على وجهه ونصف جسده المكشوف، ربما لكثرة احتكاكه بالسياح في عملٍ مليء بالأمور المقرفة. عندما عرف أني فلسطيني أجلسني بجواره ووضع يده على كتفي كابن له وفاخر بي بين أصحابه وبدأت حالة من التفاعل العالي والإيجابي؛ لكني لم أكن سعيدا تماما. أشار لحادثة قبل يومين حين نكل هو وأصدقاؤه بـ "كوريين أوغاد"، استهزؤا بصديقه وأهانوه فضربوهم حتى نُقلوا للإنعاش، وكيف تضامنوا في الصرف على أسرة صديقهم الذي اعتقلته الشرطة لجرمه حتى خرج من السجن.. "الكوريون هكذا"؛ شعب لا يتأدب إلا بالضرب! الحديث مليء بالتعميمات والتعنصر؛ "أنتم مثلنا"، "مسلمون حقيقيون" ندافع عنكم أما الآخرون ليسوا كذلك!

كنت خائفا على معرفتي لصدق وقوفهم معي؛ لأني ببساطة لا أتعامل مع مبدأ عام بقدر انتقاءٍ مزاجي تعميمي يمكن انقلابه ضدي بتطرف كوقوفه معي الآن بتطرف. والحق أن غالب الماليزيين لا يمثلهم هذا الموقف النادر وهم أعدل مزاجا وسلوكا من بعض العاملين في هذا القطاع على أطراف الجزر النائية؛ وفي بقية التدوينات ما يشير لهذا المعنى. إذا كان لـ"هكذا" سياق صحيح استخدامه دائما فهو لا يفرق بين الـ "هم" والـ"نحن" في طبيعة التغير الممكنة على الشعوب والبشر. نحن هكذا كلنا..  بشر نتغير ونغير، فينا الخير والشر، تنوع الأمم عامل قوة لو ثبت التعاون وترسخ التفهم.. إذا توقفت محاولاتنا الايجابية تجاه بعضنا؛ توقف تطورنا جميعا. وهكذا.. على شواطئ الانتقال من العربية للمالاوية نطرح المزيد من الأسئلة والتدوينات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.