شعار قسم مدونات

ومن العجز ما قتل!

blogs ألم

لو أرسلتَ أنفاسك إلى السماء لاحترقت غيومُها.. ولو شكوت بثك إلى البحر لجفَّ ماؤه.. ولو انتقل ما بك إلى الجبال لصارت هَدّا، إنها النار أُضرمت في فؤادك وإنه التيه فٌرض على خطواتك.. تعيش دون أن تحيا وتمر أيامُك سراعًا دون شيء يستحق الذكر! عالقًا تطلب من الأمنيات حبلًا ينقذك من الغرق، وحيدًا لا أنيس في ليلك الطويل.. غريبًا عن الدنيا والناس وبعيدًا عن حسابات المنطق والعقلانية.. لا تفكر إلا في الخلاص ولا خلاصَ كما يُخيّل إليك!

لا شيء أصعب على الإنسان من شعوره بالعجز، كل شيء ممكن أن يهون في حال قدرتك على التعامل معه أو مع تداعياته.. لذلك فإن المشكلة تبدأ حين تجد نفسك خاليا من أدوات التعامل والفعل ورد الفعل، متمترسًا خلف قواعد دفاعك الهشة لا تملك سلاحًا تقي به نفسك وأحبابك، وما أنت إلا عرضة هجمات الحياة وتجاربها.. الشعور بالعجز موت بحد ذاته، لكنه ليس كأي موت، موت بطيء مؤلم يقتل روحك رويدًا رويدًا ويشلّ جسدك خليةً خلية.

قد تختلف أشكال العجز لكنها تتفق على قسوتها وبطشها، وقد يكون حلولها الثقيل في حياة أي واحد منا اختبارًا مفصليًّا، من العجز ما هو مادي وما هو حركي وما هو نفسي وما هو جنسي وما هو عقلي وغيره من التفصيلات في هذه الأبواب الرئيسة، فلو كان ماديّا فإن صاحبه يشعر بأنه عالة على غيره، لا يملك قراره حتى في أكثر تفصيلات حياته خصوصيةً، وما يزيد جرحَه نزيفًا أنه يسجن نفسه داخل حسابات غير منطقية بالنسبة للحياة.. حسابات قائمة على المقارنة بين قدراته وإمكانياته وبين ما يستحق من مردود على ذلك.. العجز المادي قد يراه بعض الناس قسمةً ونصيبًا وقدرًا وقد يراه البعض ظلمًا اجتماعيًا وتهميشًا للقدرات وقد يراه البعض اختبارًا للصبر وامتحانًا لصدق المواهب.

قد يكون شعورنا بالعجز دافعًا لنا لخلق المعجزات والأمجاد الشخصية والجماعية لا سببًا للغم والهم.. نعم من العجز ما قتل ولكنّ منه ما أحيا

وإن كان العجز حركيًّا فإن صاحبه مبتلى أيما ابتلاء، لأن المال معوضة خسارته ولكن الصحة لا عوض لها.. ما الذي سيعوض غير القادر على الحركة؟ إن سعادته بارتشاف فنجان قهوة ستكون بالتأكيد أكبر من سعادته بالأموال الطائلة والأملاك التي ليس لها آخر، إن خطوتين يمشيهما على الكورنيش رفقة أصدقائه تعادل عنده متاع الدنيا وما فيها، وإن الذي أصيب بهذا العجز منذ ولادته أهون ممن أصيب به بعد أن عرف نقيضه وجربه.. فالأول متطلع إلى ما لا يعرف والثاني مضيع ما عرف وفاقد ما جرب، ولو كان العجز نفسيًّا فإن صاحبه مبتلى بالبلادة والتحجر والخوف من العلاقات البشرية، أسباب هذا الابتلاء صدماتٌ عنيفة أو قاتلة إن صح التعبير، كالإعصار المدمر الذي لا يبقي خلفه إلا الدمار والأنقاض، هكذا تصبح روح العاجز نفسيا ركامًا وأطلالًا لا تصلح للحياة.

وإن كان العجز جنسيًّا فإن صاحبه سيشعر بألمه مع كل طفل يراه يلعب في الشارع أو يعود من مدرسته أو يمسك بيدي أبيه وأمه ضاحكًا فرحًا، ستخز تلك الضحكات صدر المبتلى بالعجز وخزًا شديدًا رفقة الوخزات الأخرى التي تتهاطل عليه من أهله ونظرة مجتمعه، ولو كان العجز عقليا.. فإن صاحبه في راحة الشقاء يؤلم أهله ولا يشعر بألم نفسه، يبتلى بأشد أنواع العجز على الإطلاق.. فقدان التفكير والعقل والحكمة والوعي، فلا يعلم الصالح من الباطل ولا الصح من الخطأ ويحرم من الشعور حتى بما يُحزن ويؤلم.

لا أعتقد أن واحدًا من الناس سالم من عجز ما، لأنني أظن أن فلسفة العجز ضرورية لصياغة اختبار الحياة، لذلك فإن مواجهتنا لهذا الاختبار تكون بمحاولة حله لا أكثر، والصبر من أهم الحلول وأنجعها وأصعبها أيضًا، واستحضار المعجزات قد يكون ضمن الحلول التي لا يهملها الطلاب المتفوقون، المعجزة بكسب الرزق رغم الظروف الصعبة الحالكة والمعجزة بالشفاء أو تقليل الأضرار أو حتى التأقلم القائم على الرضا وفهم فلسفة الحياتين، والمعجزة بكسر حواجز التبلد والتحجر من أجل الانفتاح على العالم من جديد.

سوف نشعر بالعجز يومًا ما، قد نكون محقين في ذلك أو لن نكون، لكن الحقيقة الثابتة هي أننا أمام أسئلة الحياة التي وضعتها يد العدالة الإلهية وقد أعطت لكل واحد منا إمكانيات مساعدة لفك الشيفرات التي قد تبدو معقدة أحيانًا، قد يكون شعورنا بالعجز دافعًا لنا لخلق المعجزات والأمجاد الشخصية والجماعية لا سببًا للغم والهم.. نعم من العجز ما قتل ولكنّ منه ما أحيا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.