شعار قسم مدونات

لماذا اهتم العالم بخاشقجي.. بينما أغفل قتل الملايين؟

blogs خاشقجي

ليست محاولة في تبسيط قضية الصحفي والكاتب السعودي جمال خاشقجي، الذي قُتل بطريقة وحشية وغادرة وآثمة على يد نظام ديكتاتوري يريد ملاحقة أصحاب الفكر الحرّ والأقلام العاقلة، التي لا تريد أن تكتب شعر مديح يتغنى باسم الملك وولي عهده. تابعنا اهتمام العالم بشكل كبير وعلى مختلف المستويات، من إعلام، وسياسيين، واقتصاديين ورجال أعمال ورؤساء دول، جميعهم ندّد بجريمة مقتل خاشقجي، ووضع أصابع الاتهام على النظام السعودي لا سيما المتمثل بولي العهد الشاب محمد بن سلمان.

لقد كان الاهتمام بجريمة قتل خاشقجي اهتمامًا دوليًّا وعلى أعلى المستويات، والتصريحات من أعلى القادة الغربيين كانت بمثابة صاعقة ضربت أركان المملكة ولا شك أنها ساهمت في تحطيم طيش ابن سلمان. ولكن هذا الاهتمام ربما لم نرَه أو على الأقل لم يكن بهذا المستوى؛ عندما قام نظام الأسد مثلًا في سوريا بقتل مئات الآلاف بمختلف أنواع الأسلحة الكيميائية وغيرها، لم نرَه عندما قام السيسي بارتكاب مجازر بحق المتظاهرين بميدان رابعة، ولم نرَه أيضًا بحق الانتهاكات التي قام بها حفتر في ليبيا، أو التحالف العربي في اليمن، إلى آخر القائمة.

وهذا بنظري يعود إلى أسباب عديدة، وقبل أن آتي على ذكر الأسباب لا بد أن نعي أن النظام الدولي لم يعد صاحب دور كبير ومؤثر يستطيع إيقاف حرب طاحنة كالتي في سوريا واليمن وغيرها، وذلك لأن هذا النظام الدولي ذاته منقسم على نفسه، ومتشتت بسبب حسابات الدول العظمى التي تملك القرار في مجلس الأمن، وفي النهاية علينا أن نعلم أن السياسة تقوم على مبدأ "المصلحة"، لا مبدأ "العدل" المثالي الذي نحلم به والذي تحدث عنه ابن خلدون. ثقوا أننا لن نراه في عالمنا هذا.

الأسباب التي ربما تفسر سبب اهتمام العالم بمقتل خاشقجي بشكل أكبر فاق اهتمامه بمجازر الأسد وغيره من الحكام الطغاة، هي كالأتي:

تعاطي العالم مع مسألة مقتل إنسان مضطهد، يختلف كليًّا مع تعاطيه حيال مقتل الآلاف من قبل نظام ديكتاتوري يشنّ حربًا واضحة على شعبه

1- الجريمة حصلت على أراضي تركية، وهو الذي مكن تركيا من تسلم الملف منذ اللحظات الأولى، تركيا لعبت دورًا استخباراتيًّا عاليًا من حيث التسريب شيئًا فشيئًا لوسائل إعلام محلية ودولية بارزة، كل ذلك جعل السعودية تناقض نفسها بنفسها مضطرة أخيرًا للإقرار بالجريمة، هذه الدراما التي خيمت على قضية مقتل خاشقجي جذبت اهتمام العالم بشكل كبير، وأنا متأكد لو أن خاشقجي قُتل في السعودية أو حتى في واشطن لم يكن الأمر ليأخذ هذا الزخم الإعلاميّ والاهتمام العالمي.

2- الإعلام هو العامل الكبير الذي أصر على المشي بملف خاشقجي حتى النهاية، ربما نقول أنّ اطرافًا إعلامية بالغت في الأمر بسبب حسابات سياسية، نعم هذا حصل ولكن الأهم من ذلك وأتحدث هنا عن الإعلام الغربي تحديدًا؛ ولا سيما واشنطن بوست التي كان يكتب فيها الراحل خاشقجي، انطلقت بالقضية من مبدأ إنساني حقوقي، يتعلق بقتل "إنسان، معارض، منفي، صحفي دولي، بطريقة وحشية، داخل قنصلية بلاده"، كل هذه التفصيلات تحولت لتعقيدات وتشعبات أخذت ألف منحى ومنحى، والسبب الأبرز الذي جعل الإعلام العالمي يهتم بالقضية هو أن خاشقجي –رحمه الله- رجل إعلاميّ مثلهم.

3- تفاعل العالم مع قضية خاشقجي فاق بخطوات كبيرة اهتمامه بمجازر طغاتنا، لماذا؟ لأنّ ما يحصل في فلسطين، سوريا، اليمن، ليبيا، مصر، العراق، وغيرها هو حرب، يعني حسابات إقليمية ودولية متشابكة في الأمر، ومهما فعل الإعلام فلن يملك من الأمر شيئًا أمام أصحاب "الفيتو" الذين لا يهمهم حقيقة مسائل حقوق الإنسان، بقدر ما تهمهم مصالح بلدانهم ونفوذهم في العالم. إذن مقتل خاشقجي في قنصلية بلاده بصفته إعلاميّا معارضًا (هو لم يكن –رحمه الله- يرغب بوصفه معارضًا لكن الغرب والجميع كان يراه معارضًا)، كان العامل الذي وجّه اهتمام العالم لهذه القضية.

4- من جملة الأسباب أيضًا، هو تعاطي العالم مع مسألة مقتل إنسان مضطهد، يختلف كليًّا مع تعاطيه حيال مقتل الآلاف من قبل نظام ديكتاتوري يشنّ حربًا واضحة على شعبه، في المسألة الأولى هناك لغز كان الجميع ولا يزال يحتاج لتفسيره، يحاول التوصل للعدالة ومحاسبة المجرمين وفهم ما حدث فعلًا، بينما في مسألة الحرب فإنك ترى كلّ شيء بشكل واضح، يعني هنا نظام يقتل شعبه على العلن بدعم دولة عظمى كروسيا مثلًا، وبصمت عربي وتخاذل مقيت. إذن ماذا تتوقع أن يحدث سوى تصريحات القلق والإدانة والشجب ومطالبة تسليم القتلة للعدالة وما شابه؟

 

قال الراحل خاشقجي خلال إحدى الندوات، أنّ
قال الراحل خاشقجي خلال إحدى الندوات، أنّ "التغيير يجب أن يكون من الداخل لا من الخارج، وربما بسبب أخطاء المستبدين وقلة حكمتهم يحدث ذلك التغيير"
 

ملخص ما أريد قوله هو أن قضية قتل شخص صحفي بطريقة معينة داخل قنصلية بلده، مكّن العالم من متابعة الأمر بشكل أوسع وتوجيه طاقاته كلها نحو قضية واحدة، بينما في الحرب هناك مئات آلاف القضايا ولا مُطالب حقيقيًّا وراءها أو على الأقل أصواتهم غير مسموعة، وبالتالي انقسام دولي حول هذه الحرب، ومصالح وحسابات…إلخ.

بقي أن أتساءل مثلكم، هل من المعقول أن يكون ابن سلمان حقيقة لم يحسب الحساب لهذا الاهتمام العالمي الكبير؟!، ربما نعم، وهذا واضح من طبيعة قراراته الطائشة منذ أن تسلم زمام الأمر ببلاده وحيّد والده بشكل تام، واشترى الإدارة الأمريكية بنقوده، وبالطبع لا يتوقع أي تحرك من الحكومات العربية التي هي بالمناسبة باركت قتل خاشقجي، وسارعت لتصديق الرواية السعودية دون تردّد ودون إدانة لمقتل إنسان صحفي، بالتأكيد لن أتعجب من ذلك فحكوماتنا العربية آخر ما يهمها هو مسائل الحقوق والحريات والديمقراطية.

ابن سلمان قضى بنفسه على نفسه، هو كالشاعر الذي قتله شعره، وكالحسناء التي قتلها جمالها. ولي العهد الشاب قتل نفسه بسياسته واستبداده، كما قال الراحل خاشقجي خلال إحدى الندوات، أنّ "التغيير يجب أن يكون من الداخل لا من الخارج، وربما بسبب أخطاء المستبدين وقلة حكمتهم يحدث ذلك التغيير"، لقد قال الرجل حقًّا ونطق بما نشهده اليوم. إن كل محاولات ابن سلمان للتغطية على جريمته سيذهب في مهب الريح، وأنا حتى الآن أثق بتركيا وسياستها في التعامل مع هذا الملف، كان واضحًا هذا للغاية من حديث أردوغان الثلاثاء الماضي عندما قال "على السعودية أن تحاسب المتورطين في هذه الجريمة من أسفل السلم إلى أعلاه"، أتبع ذلك بتعبيره عن عدم اقتناعه بتحميل الجريمة لبضعة أشخاص، متسائلًا من الذي أمرهم؟ أردوغان أرسل رسالة واضحة للملك سلمان، تدارك الأمر واعتبرها فرصة أخيرة، فلقد نفد صبري من سياسات ابنك الأحمق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.