شعار قسم مدونات

خطاب أردوغان.. بين نسف الرواية السعودية وغموض المشهد السياسي

blogs أردوغان

نسفت صراحة وشفافية؛ ما أعلنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الثلاثاء في كلمته أمام البرلمان التركي، كل الروايات السعودية المتناقضة أصلا، التي سوقتّ مقتل الصحفي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول. وفي سياق القضية، فإن ما حصل جريمة فيها تفاصيل من الفظاعة، تشير بشكل واضح إلى أن مقتل خاشقجي جاء بتخطيط "مع سبق الإصرار والتّرصد".. وما حدث للصحفي المخضرم، اغتيال سياسي بامتياز إجرامي ارتكب بقرار مسبق، وتخطيط مسبق، ومع "سبق الإصرار والترصد" وفق كل الآراء التي سبقت كلمة الرئيس أردوغان. وعلى الرغم من استمرارية الإعلان التركي عن التحقيق بقضية مقتل الرجل، وتضمين الرئيس التركي أن أمر ما حصل للجثة، ما زال الضمير العالمي يسعى لمعرفة التفاصيل، والكشف عن مصّدر الأمر بقتل خاشقجي، بعيدا عن التحقيقات السعودية التي ما زالت تسعى إلى الإفلات من قبضة الإدانة العالمية، بروايات متناقضة، وتبرئة المتسبب في تقطيع أوصال جمال.

وفي قراءة تحليلية لكلمة الرئيس التركي، الذي ألمح إلى أن الفاعل يحظى بدعم من الإدارة السياسية العليا في الرياض، وأن "الفاعل" الذي أصدر الأمر مختبئ وراء عباءة المخابرات، يمكن استنتاج يضاف إلى جملة التحليلات السابقة التي نشرت بوسائل إعلام عالمية، ما يمكن تسميته "التشريح السياسي" لموقف السعودية بعد كل هذه الأدلة، التي حسمها الرئيس التركي. ولعل الإعلان التركي، الذي ينم عن شرف الموقف؛ سياسيا وإنسانيا، عبر أعلى سلطة سياسية، التي حملت في مضمون الإعلان عن خاشقجي رسائل سياسية عديدة، أبرقتها تركيا ليس إلى السعودية فحسب، بل إلى أكثر من جهة حاولت التظليل، والتأثير على سير التحقيق.

السعودية؛ لم تتخذ قرار التخلص من الصحفي خاشقجي إلا لأنه مارس قناعاته الفكرية وعبرّ عن حال الشعب السعودي وحاجته إلى حرية التعبير والتعددية السياسية، وفق رؤى ديمقراطية تحد من تمدد الاستبداد الذي أتسع

حالة من الذعر، طفت على المشهد السعودي الرسمي، قبيل إعلان تركيا عن مقتل خاشقجي، واتسم مشهد "دافوس الصحراء" برائحة دم القتيل، إذ؛ خرج المؤتمر متشحا بسواد الأسئلة السرية والعلنية بحثا عن إجابات لحل لغز جمال.. ناهيك عن لغة الاستنجاد التي تحدث بها وزير الخارجية عادل الجبير من جاكرتا بقوله: "سيتم اتخاذ الخطوات اللازمة لضمان عدم تكرار ما حدث" وفي السياق جرت محاولات من داخل البيت السعودي لاحتواء الموقف التركي، ومحاولات ثنيه عن تقديم الأدلة، أو على الأقل عدم التطرق بتورط أيّا من العائلة الحاكمة في السعودية، ولنفس الغرض (ربما) أجرى وزير الخارجية الأمريكي نفس الاتصال يوم الإثنين ـ أي قبل إعلان تركيا تفاصيل مقتل خاشقجي بيوم ـ، غير أن تركيا مضت نحو تجسيد سياداتها الذاتية وإعلان ما حصل للعالم بشفافية ووضوح وصراحة.

جاء الاعتراف السعودي بمقتل خاشقجي، بعد الذعر الذي سيطر على مشهدها السياسي، وتحت ضغوطات إعلامية ومنظمات إنسانية عربية وعالمية، اتجهت السعودية للبحث عن مخرج للإفلات من قبضة الإعلام الضاغط الذي اقترب بفضل التحقيقات التركية من كشف الحقيقة كاملة لتتوه البوصلة، وتخرج السعودية باعتراف لا يلامس العقل والمنطق لا من قريب ولا من بعيد، ولا يحظى بقبول لأنه ببساطة يفتقر للمنطق الذهني، أو على الأقل يخلو من أبسط قواعد التحقيق بعلم الجريمة، في محاولة منها لإقناع العالم بأن ما حصل كان موت "بالخطأ خنقا"!

الجريمة وقعت؛ بفظاعة تنّم عن وحشية واستبداد، بعيدا عن أي اشتباك وقع بين صحفي مسالم لا يملك إلا الفكر، وفريق مارس ذات الفظاعة ضد خاشقجي، بيد أن ما بعد الجريمة وتفاصيل قصتها من الجانب التركي، تجيء الأسئلة الباحثة عن إجابات: ما هو شكل صورة الرياض سياسيا وإنسانيا بعد الذي حصل وبأمر من مصادر عليا؟ وأين جثة جمال ولماذا تم التخلص منها بتقطيع أوصالها وبسرعة فائقة، ولماذا تم تنظيف أرض القنصلية من أثار الدماء.. وأسئلة كثيرة يطرحها منطق العقل ومنطق القانون الدولي، والجنائي.

التزام الصمت؛ حيال أمر كهذا يّعد سابقة خطيرة في تاريخ الأمم، وأعراف القنصليات والسفارات، وقد ينتج هذا الصمت في حال تمرير ما حدث لخاشقجي دون عقوبات ملموسة، الكثير من الأوامر "الاستبدادية" للتخلّص من كل من يقول لا في وجه السلطان.. فالسعودية؛ لم تتخذ قرار التخلص من الصحفي خاشقجي إلا لأنه مارس قناعاته الفكرية وعبرّ عن حال الشعب السعودي وحاجته إلى حرية التعبير والتعددية السياسية، وفق رؤى ديمقراطية تحد من تمدد الاستبداد الذي أتسع.

لأن أمريكا راعية
لأن أمريكا راعية "الحقوق" أمميا، يجيء الاستغراب والشكوك من موقف ترامب حيال قضية مقتل خاشقجي البشعة، وتصريحاته المتناقضة التي تحمل دلالات رخوة
 

باستثناء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يسعى إلى تسويق رواية الرياض، ويتلاعب بتصريحاته وفق مصالح شخصية تربطه مع "الريال السعودي"، وقف العالم بقضية خاشقجي منذ حدوثها مع ذاته، ومارس هذا العالم قناعته الإنسانية بعيدا عن المصالح الذاتية وتأثيرات لغة المال والسلاح عما حدث، واعتبرت أمميا قضية خاشقجي قضيه رئيسية من الناحيتين السياسية والإنسانية. الكونغروس الأمريكي؛ الذي يعتبر ولي عهد السعودية عبء على أمريكا، لم يقف مكتوف الأيدي، ولم يضع الكونغروس اليد على الخد، بل مارس أعضاء فيه قناعاتهم بضرورة كشف ملابسات الجريمة وكيفية حدوثها ومحاسبة المسؤولين عنها بعيدا عن أي صفقات، بالإضافة لضغوطات الإعلام الأمريكي المتجه نحو رفع وتيرة الضغوط والدفع باتجاه اتخاذ عقوبات .

ولأن أمريكا راعية "الحقوق" أمميا، يجيء الاستغراب والشكوك من موقف ترامب حيال قضية مقتل خاشقجي البشعة، وتصريحاته المتناقضة التي تحمل دلالات رخوة أشبه ما تكون ب"المعكرونة المسلوقة" في قضية تستحق أن ننظر إليها بصلابة لنحم حق التعبير وديمقراطية الكلمة. كما تتناقض هذه التصريحات مع ما قاله قائد هيئة الأركان الأميركية المشتركة السابق الجنرال مارتن ديمبسي: "يجب أن تتغلب قيمنا على المصالح الاقتصادية الآنية".

جاء الاعتراف السعودي، بسيناريو فيه من الاستعباط، ما يكفي لأن نتعرف فيه على المسار الذهني للذي وضع السيناريو وصاغ مفرداته، وأخرج القصة وفق رؤى تخيّلية ينقصها الكثير من السرد المنطقي المفتقر للموضوعية. تركيا أعلنت الحقيقة، والسعودية سوقّت خمس روايات هزيلة للقتيل ووقعت في ورطة "عدم اكتمال النصّ" وتغييب لحقيقة.. أين اختفت جثة جمال؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.