شعار قسم مدونات

أبيع جنسيتي لأول مشتري!

blogs ألم تعب

ما أن تخرج من العدم إلى الوجود، حتى تجد نفسك في بقعة جغرافية محاطة بالسياج من كل اتجاه تسمى الوطن، لها سكانها وتقاليدها، اختاروا لها اسما وعلما وشعارا وغيرها من الرمزيات التي تميزها عن غيرها، ما أن تجد نفسك هناك حتى تبدأ القيود تلتصق من كل جانب، فيتم اختزالك باسم ونسب، ثم تنتسب للمدينة والقبيلة والعرق والدين والمذهب. ليأتي الولاء الأكبر الذي يجمع الجميع فيتم منحك الجنسية لتصبح مواطنا له ما له لكن عليه ما عليه. كل هذا وأنت ما زلت في أيامك الأولى، أو ربما حتى قبل ذلك، فكل شيء جاهز ننتظر فقط قدومك لكي تضاف إلى مجموع الأرقام الأخرى!

في إحدى بقاع شمال إفريقيا المسماة المغرب الحال لا يختلف كثيرا، البلد الذي نجا بأعجوبة مما سمي بالربيع العربي، لم يتعلم من أخطائه، ولا زالت العقلية القديمة هي السائدة، فمع انطلاقة شرارة الاحتجاجات ببعض المناطق والتي طالب سكانها بالتنمية والشغل والصحة ورفع التهميش وغيرها من المطالب الشرعية التي من الواجب على الدولة تلبيتها، قوبلت هده الاحتجاجات بموجة إعلامية مسعورة اتهمتهم بالخيانة والانفصال والعمالة لجهات خارجية، وهي اتهامات تأففنا من سماعها في كل مرة، كان الغرض منها هو منح شرعية وهمية لاستعمال العنف والقوة ضد متظاهرين سلميين واعتقال عدد منهم بتهم ثقيلة وصلت لـ 20 سنة.

ومع تزايد الوعي في وسط الشباب وازدياد موجات التمرد والاحتجاجات التي نتج عنها حملة مقاطعة ناجحة لبعض المنتجات، ومع فشل المدرسة في تخدير الوعي بقيم المواطنة وحب الوطن وكل هده التفاهات، نعم في هكذا وضع لم تعد سوى تفاهات. والفشل المقابل في المساجد أيضا فالخطاب الديني لم يعد له داك الأثر الكبير في نفس الفرد والذي كان يستعمل ولا يزال في ضبط وتوجيه الرأي العام، وهو ما يظهر جليا في نفور الشباب خصوصا من الخطاب الديني وموجة الإلحاد التي تضرب حاليا، بالإضافة الى وضاعة المستوى الذي وصل إليه الإعلام الوطني وكبح الأصوات الحرة والتي كانت على الأقل الشمعة المضيئة في الحقل الإعلامي الذي كان ولا يزال مثيرا للشفقة في طريقة تفاعله مع القضايا الأساسية التي تمس المواطن.

 

فكرة أن يعيش المرء ويدافع عن شيء لا يؤمن به لهو شيء من الصعب فهمه وتقبله، والأدهى من ذلك أن يكون مجبرا على الفعل، فما الفرق بينها وبين أشكال العبودية التي كانت قديما

المهم أن ثلاثة من أهم الأدوات التي كانت تعتمد عليهم الدولة لم يعد لهم نفس المكانة، فما كان إلا للعقلية العسكرية أن تظهر من جديد وتفرض التجنيد الإجباري على كل المواطنين والمواطنات من سن الـ 19 إلى 25. خطوة اختار لها الإعلام الرسمي بعض الأسباب الواهية كإحياء قيمة المواطنة في صفوف الشباب، الشباب الذي كان يطالب بالتعليم والصحة والشغل لعقود طويلة تفرض عليه بطريقة مستفزة الخدمة العسكرية، فهي لم تكن في أي برنامج انتخابي لأي حزب ولم يتم استشارتهم وهم الطرف المعني بالأمر، وهو ما يعبر عن غياب المقاربة التشاركية التي لطالما صدعوا رؤوسنا بها.

 

ومن الناحية الاقتصادية فأن قرارا بهذا الحجم يتطلب ميزانية ضخمة كانت أولى بها القطاعات المذكورة سابقا، فالمواطنة لا تأتي بالفرض والجبر، بل تأتي عندما يحس الفرد بأن له احتراما أولا وأنه يتوفر على ابسط مقومات العيش الكريم كالتعليم الذي تخدم الإنسان ويجعله قادرا على التفكير لا الذي يحد منه، والصحة المجانية لجميع المواطنين، والشغل الكريم وقضاء مستقل يضمن حقوقه، والأهم أن يشعر بالأمان والتقدير وأنه يساهم حقا في الحياة السياسية وفي القرارات التي تهمه، وهو الأمر الغائب للأسف ما يجعل هده البقعة الجغرافية مجرد بلد إقامة أنت مجبر على البقاء فيه إلى أن تجد الطريقة المناسبة للهجرة إلى بقعة أفضل حيث يحترم المواطن والإنسان.

فكرة أن يعيش المرء ويدافع عن شيء لا يؤمن به لهو شيء من الصعب فهمه وتقبله، والأدهى من ذلك أن يكون مجبرا على الفعل، فما الفرق بينها وبين أشكال العبودية التي كانت قديما، ففي كلتا الأمرين لا يملك الفرد قراره بيده وهو دائما تحت أمر سيده، وهو الشيء الذي دفع الكثير من الشباب إلى ركوب قوارب الموت ومحاولة الهجرة السرية إلى الضفة المجاورة، وهو شكل أخر من أشكال الاحتجاج، فمع انقطاع كل وسائل التواصل معهم، ومنعهم من التعبير عن رأيهم وحقهم بكل حرية، وانعدام أية مؤشرات على انفراج قريب للازمة الراهنة لم يتبقى لهم إلا مغادرة بلادهم تاركين وراءهم كل شيء، أو بالأحرى لا شيء، فهم لم يكونوا يمتلكوا شيء أصلا ليتركوه. تركوا فقط مآسيهم وخيبتاهم في بلد لم يرتقي إلى درجة الوطن، ففي أزمننا الراهنة "بلادي وإن جارت علي لن تعود أبدا عزيزة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.