شعار قسم مدونات

لعبة الجماهير.. كيف تسيطر على الشعوب وتحركها؟!

blogs مجتمع

الجماهير عبارة عن كتل بشرية تتحرك بنسق واحد تقود أفرادها في الغالب ولا تقاد من قبلهم لها قوانين في التحرك. التعامل معها من حيث المبدأ مشابه للتعامل مع فرد مستقل له نفسيته الخاصة مع احتياجاته ورغباته. هؤلاء الأفراد باحتياجاتهم وطباعهم العامة ومستوى الوعي لديهم، بأجزائهم النفسية والفيزيائية يشكلون الجمهور. كما أن الأفراد لديهم صفات نفسيه شخصية خاصة يجب دراستها للتعامل معهم، كذلك الجماهير ككتل بشرية تملك احتياجات وطباع وصفات نفسية تتميز بها، لكن هنالك اختلاف كبير في التعامل مع الفرد لوحده والتعامل معه عندما يقع ضمن دائرة تفكير وعقلية الجمهور.

 

يذكر الكاتب غوستاف لوبون مؤسس علم نفس الجماهير في كتابه "سيكولوجية الجماهير" أن عقلية الفرد تكون واقعية وأكثر منطقية ورقي وأقل عاطفية بينما عقلية الجمهور تكون عقلية بدائية عاطفية جدا سهلة التأثر خاصة في وقت الانفعال والأزمات. لذلك لا نتفاجأ إذا وجدنا شخص بدرجة عالية من العلمية والثقافة قد انجر في انفعال ما، للقيام بأفعال بدائية تنم عن تخلف واضح.

الأفراد داخل جمهور منفعل يتدنى مستوى التفكير لديهم لمستوى عقلية الجمهور، فتجد نفس الفرد يتخذ قرارات عنيفة من المستحيل أن يتخذها فيما لوكان لوحده ووضع في نفس الموقف. هذه القرارات قد تصل لحد التضحية في النفس كما نراه في بعض الانفعالات المجتمعية كالمظاهرات، فنلاحظ أن الأفراد يقومون بتكسير النوافذ ومهاجمة وتخريب الممتلكات العامة تصل إلى حد مهاجمة قوات الأمن، في حين عندما يوضع الشخص بمفردة وبنفس الموقف مع بقائه ضمن دائرة التفكير الفردية تجده ضد أي تخريب أو أي نوع من أنواع العنف.

عندما تتخذ الجماهير قراراً معيناً يصعب السيطرة عليها وإقناعها ولن تتوقف في الغالب إلا بتحقيق أهدافها حتى لو كلف ذلك خسائر كبير. إذاً الجماهير قوة كبيرة لا تتحرك بسهولة لكن مع تحركها يصعب جدا إيقافها، في الوقت ذاته من الممكن استثارتها وتوجيهها في حال معرفة كيفية التعامل معها لصناعة الاتجاهات المجتمعية المطلوبة، فقط يجب أن يتوفر الإدراك الكافي، مع امتلاك أدوات تحريك الرأي داخل الجمهور لدفع المجتمع لتبني ثقافه أو فكرة معينة أو حتى دفعه للتخلي عن قناعات كان متمسك بها في مقابل تبني أفكار أخرى مغايره تخدم الأهداف الاستراتيجية لمحركي الجماهير.

هنالك الكثير من القيم والقرارات المغلوطة يجب إصلاحها في المجتمع للتهيئة لمجتمع قوي متماسك قيمي على مستوى عالي من العِلم والتحضّر، يكون مهيئ لإنتاج وإبراز قادة أصحاب مشاريع

هنالك حالتين تمر بها المجتمعات، لكل منها نسبة تأثر معينه سنتعامل معها في طريق إحداث التغيير والتأثير المطلوب: الحالة الأولى الاستقرار المجتمعي، الحالة الثانية الأزمات أو الحروب.

1- في حالة الاستقرار المجتمعي: عندما يكون البلد هادئ والحالة المجتمعية مستقرة يكون التغير صعباً وبطيء جداً الى حد الملل، لكن التغير هنا على الأغلب يكون عميق وتأثيره كبير، على الأغلب يستهدف تغيير قناعات راسخة ومتراكمة بني عليها المجتمع.

هنا التغيير يتم عن طريق عدة استراتيجيات والتي تسلك طريقين:
الأول، وهو الطريق الأسرع نسبياً بالتوجه إلى رأس الهرم وهم قادة الرأي العام داخل المجتمع والعمل على إقناعهم بتبني الأفكار الجديدة والترويج لها، بالنتيجة ستنعكس هذه الأفكار إلى جمهورهم ومقلديهم وسنحصل نوع من تبني الفكرة والمفاهيم الجديدة.

أما الطريق الثاني، فيشتمل على عكس الهرم والتوجه للقاعدة الشعبية مباشرة، تستخدم هذه الاستراتيجية عندما يكون التغيير كبير جداً أو عندما نحاول الترويج لأفكار جديدة يصعب إقناع قادة الرأي بها كتغير النظام الذي يحكم البلاد أو قيم مغلوطة راسخة ومتراكمة من أجيال، هنا التغيير يكون بطيء جداً لكن نتيجته أن يحدث تغيير كامل وكبير ينتج عنه رموز وقادة رأي جدد بما يتناسب مع النظام والأفكار الجديدة يؤدي إلى تبلور نواة قيام نظام عام جديد يحكم حياة المجتمع يتخذ من الأفكار الجديدة منطلقاً له.

2- في حالة الحروب والأزمات: في الغالب بعد الصدمات المجتمعية القوية أو الحروب تتغير اتجاهات وقناعات الجماهير بصور كبيرة وسريعة جدا بالنسبة لمقياس سرعة تغير الأفكار المجتمعية، وهذا شوهد واضحاً خلال الحروب والأزمات التي عشناها واقعاً في العراق، حيث حصلت تغيرات كبيرة وسريعة في اتجاهات وأفكار الفئات المكوّنة للمجتمع العراقي منذ سقوط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣م ليومنا هذا، كذلك حجم وعدد القرارات التي تم تبنيها من مختلف الفئات الجماهيرية العراقية والشواهد على سرعة تغيير المواقف واتجاهات المجتمع كثيرة، كالمواقف من الاحتلال الأمريكي بالنسبة لمختلف أعراق وطوائف العراق، هذه السرعة في تبني اتجاهات معينة والتخلي عن أخرى جاءت من العاطفة المستثارة نتيجة الأزمات والحروب والصدمات المستمرة التي عصفت بالمجتمع العراقي.

مع كل حدث أو أزمة مجتمعية تتولد معها مشاعر ونقاش مشتت والاستراتيجية هنا هي استثمار الانفعال بتوجيه النقاش بما يخدم الهدف الاستراتيجي البعيد
مع كل حدث أو أزمة مجتمعية تتولد معها مشاعر ونقاش مشتت والاستراتيجية هنا هي استثمار الانفعال بتوجيه النقاش بما يخدم الهدف الاستراتيجي البعيد
 

كلنا ينشد التغيير والإصلاح السريع لترميم المجتمع لكن هناك علاقة عكسية بين سرعة التغيير المجتمعي والتكلفة المصاحبة له. فالتغيير السلمي وقت الاستقرار المجتمعي مع تكاليفه المادية والبشرية القليلة إلا أنه بطيء لدرجة الملل، بينما التغيير الذي تحدثه الحروب والأزمات يكون كبير جدا وبسرعة قياسية لكن مع خسائر كبيرة جدا على مستوى الأرواح والأموال، بغض النظر عن نوع التغيير إيجابي كان أم سلبي. مع هذا يستحسن استثمار الواقع واستحصال مكاسب من الواقع القاسي والأزمات والصدمات المتوالية والتي تعصف بالجمهور وتثير عواطفه بنسب متفاوتة. بما أن البيئة العربية التي نعيش فيها وخاصة العراقية منها هي بيئة أزمات مستمرة، فهي فرصه للإصلاحيين أن يعملوا على امتلاك أدوات التأثير للاستثمار بالأزمة وتوجيها باتجاه خدمة الأهداف الاستراتيجية الإصلاحية البعيدة وإحداث التغيير السريع والمنشود، هنالك عدة استراتيجيات أهمها:

1- مع كل حدث أو أزمة مجتمعية تتولد معها مشاعر ونقاش مشتت والاستراتيجية هنا هي استثمار الانفعال بتوجيه النقاش بما يخدم الهدف الاستراتيجي البعيد.
2- الدخول الفعال كجزء أساس من الحدث بالسيطرة والتوجيه.
3- امتلاك أدوات تحريك الجماهير من أبرزها وسائل الإعلام. 

هنالك الكثير من القيم والقرارات المغلوطة يجب إصلاحها في المجتمع للتهيئة لمجتمع قوي متماسك قيمي على مستوى عالي من العِلم والتحضّر، يكون مهيئ لإنتاج وإبراز قادة أصحاب مشاريع تسير بالمجتمع نحو النهضة الفكرية التي تنتج العمران لنرى ناطحات السحاب وغيرها واقعاً يتغزل بسماء بلداننا، فتتم الغاية من الوجود ويُحقق شيء مفهوم الاستخلاف.

هنا يجب أن أقف لأتفقد الفئة أو القوى الأخلاقية المثقفة التي تشكل هيكل المجتمع زمام المبادرة من يدها وتوقف خطوات الرجوع للوراء أو مظاهر الاستسلام، وتعمل جدياً على امتلاك أدوات التأثير لاستثمار أي حدث لصالحها فكل فراغ يُترَك سيُملأ، ومن يملأه هم الكثرة المتخلفة، الأواعيه والهمجية التي ستقود المجتمع نحو الانحلال عندها سيصعب جدا الامساك بزمام المبادرة من جديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.