شعار قسم مدونات

المهدي بنبركة.. "خاشقجي" آخر أخفته الأحماض الكيميائية!

بين بنبركة وخشاقجي

قلمٌ.. ورقٌ.. أفكار معارضة لسياسات حكومة بلدك ومنبر للتعبير عن تلك الأفكار والآراء.. ونظام سياسي لم يعرف للديموقراطية وحرية التعبير طريقاً بعد، هذا كل ما تحتاجه لكي تكون معارضاً مرشحاً للحلول ضيفا ثقيلا على اللوائح السوداء التي تضعها الأنظمة العربية بشكل دوري لمجموعة من الأشخاص ممن قضْوا مضجعها وباتوا يشكلون إزعاجا لها، ومن يدري!

 

ربما تحظى بشرف نيل لقب شهيد رأي أو ضحية قلم وتبدأ الألسنة في تداول اسمك في المقالات والمدونات، ويلجأ البعض للاستشهاد باسمك كلما أراد الخوض في حديثٍ عن أنظمة الحكم وما تتخذه من سياسات تجاه شعوبها، أما إن كُنت مستقراً في بلدٍ أجنبي معروف بعداوته لحكومة بلدك، أو كنت منفيا بشكل اختياري فقد تنال شهرة أوسع من رفاقك الذين كُتب عليهم المكوث مرغمين في بلدانهم، إنها ببساطة دورة حياة المعارضين العرب.

في العام 1965، اختفى بشكل غامض واحد من أشرس من حملوا لقب معارض، إنه المهدي بنبركة المعارض اليساري لنظام الحسن الثاني خلال تلك الفترة، فمن أمام أحد مقاهي باريس خطف وثم اختفى ولم يعرف له طريق منذ ما يقارب نصف قرن من الزمان، كثرت الحكايات والروايات حول اختفائه واغتياله، في حقبة زمنية كانت تغلي سياسيا من شدة الأحداث التي وقعت خلالها، فهناك من يقول أنه قتل في أحد البيوت الراقية في ضاحية باريس ثم دفن جانب نهر السين، وهناك من يقول أنه اختطف وقتل في فرنسا قبل أن تُنقل جثته بواسطة طائرة عسكرية مغربية وتُذاب في حوض من الحمض كي لا يُعثر لها أثر.

 

الطبيعة السياسية التي تغلب على الأنظمة العربية والتي تكون في الغالب غير قابلة لاستيعاب صوت المعارضة تختار أسهل الطرق لتعفي نفسها من تبعات علو هذا الصوت النشاز في نظرها

ولا أحد استطاع أن يجزم بصحة إحدى هاتين الروايتين، صحيح أن أصابع الاتهام لم توجه بشكل صريح ومباشر لنظام الحسن الثاني والذي لطالما نفى صلته هو ونظامه بحادثة اختفاء المهدي بنبركة، كما أن جميع التحقيقات التي قامت بها السلطات الفرنسية على مدى سنين لم تفلح في ربط الواقعة بالنظام المغربي، بل أن تطورات كبيرة طرأت على هذا الملف على مر السنين أثبتت تورط أجهزة استخبارات دولية في الحادث منها الموساد وال سي أي إي.

هكذا تحول بنبركة من معارض وطني ناضل من أجل الاستقلال ودعم حركات التحرر في العالم الثالث، إلى معارض مغضوب عليه أضحى أسطورة لم تعرف لها نهاية مؤكدة، ومنذ تلك الحقبة من منتصف القرن العشرين إلى غاية وقتنا الراهن، أسماء عديدة ممن حملوا صفة معارضين لأنظمة حكوماتهم العربية وعانوا من نفس مصير بنبركة سواء كانوا صحفيين معارضين أو قيادات سياسية اختارت الاصطفاف إلى جانب الجماهير في نضالها ضد استبداد أنظمتها الراديكالية.

 

إذ أن الطبيعة السياسية التي تغلب على الأنظمة العربية والتي تكون في الغالب غير قابلة لاستيعاب صوت المعارضة تختار أسهل الطرق لتعفي نفسها من تبعات علو هذا الصوت النشاز في نظرها، إذ أن الحكومات العربية على خلاف نظيراتها الغربية، لا ترى في المعارضة شريكا في البناء والإصلاح السياسي بقدر ما تراها خطرا على استقرارها واستمرار وجودها، وضرورة إخراسها بأي ثمن ولو بلغ هذا الثمن حد الاختطاف والتعذيب والقتل، فهذا أهون الشرور مما قد يلحقها جراء تعاظم قوة المعارضة وتماسك صفوفها.

في هذا المقال لا يمكن بأي حال جرد جل أسماء المعارضين الذين لقوا نفس مصير المهدي بنبركة في الماضي، أو مصير جمال خاشقجي في الحاضر، فتجارب الأنظمة العربية في تعاملها مع معارضيها حافل بالخروقات الإنسانية الجسيمة والتي بات الاغتيال عنوانها الأبرز، وفي الغالب ما ترتبط تلك الوقائع مع أحداث وسياقات سياسية معينة يبرز خلالها صوت المعارضة بشكل أقوى مما سبق.

واقعة خاشقجي قد أظهرت للعالم أن بعض الأنظمة العربية لا تزال مصرة على التمسك بسذاجتها أمام الرأي العام الدولي
واقعة خاشقجي قد أظهرت للعالم أن بعض الأنظمة العربية لا تزال مصرة على التمسك بسذاجتها أمام الرأي العام الدولي
 

فمع اندلاع الثورة السورية سنة 2011، ارتفع عدد معارضي نظام الأسد، وارتفعت معها الأصوات المطالبة بضرورة سقوط نظام البعث في سوريا، وبذلك نالت سوريا حصة الأسد في عدد الاغتيالات التي سجلت باسمها في حق معارضيها، كانت أخرهم المعارضة السورية عروبة بركات والتي عثرت الشرطة التركية على جثتها مقتولة داخل شقتها في اسطنبول رفقة ابنتها حلا بركات منتصف العام الماضي.

قد يتفق الكثيرون على أن حادثة مقتل الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي، بالشكل المروع الذي تتداولته وسائل الإعلام الدولية على لسان السلطات التركية، لا يختلف كثيرا عن السيناريوهات التي تصورها الأنظمة العربية لطريقة تأكيد سياسة القمع والقتل في حق حرية التعبير أولا، ثم الحق في الحياة ثانيا، صحيح أن خاشقجي لم يكن بالمعارض الشرس للنظام الجديد في السعودية كما قد يتصوره كل مطلع على الأحداث، خاصة طريقة تصفيته التي يمتزج فيها الحمق بالمجازفة الصريحة، ولا تنم عن أي حس استخباراتي محترف، حتى وإن كان للسعودية تاريخ حافل مع هكذا أحداث، إلا أن واقعة خاشقجي قد أظهرت للعالم أن بعض الأنظمة العربية لا تزال مصرة على التمسك بسذاجتها أمام الرأي العام الدولي.

ويظل السؤال العالق، متى تفطن الحكومات العربية، والأنظمة السياسية العربية، إلى ضرورة الإيمان بجدوى المصالحة الوطنية، وفتح صفحات جديدة مع التاريخ، والقطع مع الممارسات الديكتاتورية التي طبعت تعاملها مع معارضيها، وأن تعلم أنهم في النهاية يمثلون صوت التوازن السياسي المفروض، فالعنف لا يولد إلا مزيدا من العنف، حتى وإن كان العنف المضاد حبيس أفكار وآراء تكتب على أوراق بيضاء، وتخط بأقلام حبرها قد يستحيل إلى دماء.. وبين بنبركة وخاشقجي… متى تصفح الأنظمة العربية عن معارضيها؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.