شعار قسم مدونات

ما بين الحقيقة والخيال.. صوت أمي!

blogs أمومة

في كثير من الأحيان أفكر ملياً في سلسلة الأحداث التي تحدث يومياً، أفكر فيها وكأن في كل دقيقة هناك حدث معين وهنالك عبرة معينة، فتأخذ الأفكار بمخاطبتي، تخاطبني فأخاطبها، تدعوني لأفكر فيها ملياً وفي مغزاها ولكن سرعان ما يستدعيني الوقت لأنهي سلسلة الأعمال التي تنتظرني يومياً، أصبحت في كثير من الأحيان أنام وأنا أخطط فقط لما سوف أفعله غداً، فتسبقني أحلامي وتبدأ في انجازه واحدة تلو الأخرى قبل أن أستيقظ، كم هي أنانية فهي لم تدعني أنام جيداً ليلة أمس.

تدق ساعات العمل مجدداً فأستيقظ مسرعة بسلسلة من الأفكار المتخبطة بين عملي والأحلام التي تنتظرني في غاية الشغف لأحققها، أستيقظ وأنا أحمل مجموعة من المشاعر المختلفة، ما بين الأمل والاستسلام. ما بين التعود والتمرد، ما بين القوة والضعف، وما بين النجاح والفشل، فأجد نفسي كل يوم أنهي عملي ودراستي لأذهب مسرعة إلى البيت، إلى أكثر مكان أشعر فيها بالأمان والدفء، إلى حضن أمي، فهو أكثر مكان آمن في الدنيا جميعها، ذلك المكان الذي لو وضعوا أمامي كل أملاك الدنيا لن أجد أفضل منه لأرتاح. لأن أضع همومي جانباً، أو ربما لأحلم، فأجد نفسي كل يوم واضعة رأسي في حضنها، ناثرة خصلات شعري لتداعبها بيديها كالرياح التي تتخبط بأوراق الأزهار فتنثر رائحتها الجميلة في كل مكان. تلك الخصلات رغم تمردها تسقط ذابلة تطلب رحمة أيديها لتحن عليها بعطفها، ثم تبدأ سلسلة الأحلام واحدة تلو الأخرى.

تلك الفتاة الصغيرة التي زرعتها بمخيلتي استطاعت أن توقظني أخيراً وتعيد لي السعادة، صفعتني فأعادت لي الكثير، أعادت لي طموحي وثقتي بنفسي ومصدر قوتي وإلهامي..

أغمض عيني لأهرب مما أراه حولي من الأنانية والخداع وبغض الناس الذين كنت أضع مكاناً كبيراً لهم في قلبي، أحاول أن أعيد الصورة الجميلة التي زرعتها لهم في عقلي، أو ربما أغمض عيني في نهاية يومي المتعب لأجد نفسي راكضة وراء فراشة فأجدها هاربة إلى مكان مليء بالنجاحات والتفوق. ذلك المكان الذي لا أسمع فيه غير صوت الهتافات والبسمات والضحكات والدعاء لي بعد أن قمت بمساعدة مرضاي بالشفاء، وبعدها أحاول لحاق صوت ضحكات طفلة فأجد فتاة واقفة عند النهر تنادي بصوتها الرقيق على أبيها ليعود إليها ليقطعا النهر سوياً. لكن هذه الفتاة كانت كلما تحاول الاقتراب ومناداة أبيها كان يبتعد أكثر فأكثر، كانت تخبره أن لا يتركها بمنتصف الطريق ويذهب فهي ما زالت بحاجته، وما زال هناك الكثير لتخبره فيه، إلى أن اختفى أثره نهائياً، فبدأت بالصراخ والبكاء، أخذت تناديه وتعاتبه بعالي صوتها أن لا يذهب، فكان آخر ما رأته من هو فقط مجرد دمعاته.

 كانت ترى طفلة هاربة بلا حيلة، طفلة لا يمكنها العودة أبداً ولا تلبية صوت ندائها، فهربت مسرعة لأساعدها وأحضنها لأخفف عنها فوجدتها تحولت إلى فتاة ناضجة ولكن ما زالت البراءة تملأ عينيها فأخبرتني أن لا أخاف فهي كبيرة ولكن براءتها من جعلتني أراها صغيرة ولا تعرف شيئاً. فضَحِكت بابتسامة صغيرة زرعتها على طرف شفتيها وقامت بصفعي صفعة كانت كفيلة أن توقظني من غفلتي ثم رحلت وهي تنظر إلى نظرة التمرد وكأنها تخبرني أنه لن يستطيع أي شيء كسري مرة أخرى مهما كان، أو ربما لتخبرني أن أتخلى عنها من عقلي وأن أنضج فأنا وهي ذات الشخص، وأن ما أراه هي الطفلة التي أرغب أن أكونها فقط، وأن ابتسامة التمرد هي كانت نفس الابتسامة التي زرعتها مؤخرا على شفتي. تلك الفتاة الصغيرة التي زرعتها بمخيلتي استطاعت أن توقظني أخيراً وتعيد لي السعادة، صفعتني فأعادت لي الكثير، أعادت لي طموحي وثقتي بنفسي ومصدر قوتي وإلهامي، أعادت لي الأمل والثقة في نفسي وبمن حولي، أعادت لي الحب والأمل في هذه الحياة، أعادت لي النظر بأن الحياة ما زالت جميلة.

ثم بدأت بسماع صوت آخر يناديني باسمي، صوت لم أسمع بجماله أبداً، صوت ملئ بالأمل والأمان والدفء، ذلك الصوت الذي أعرفه جيداً وهو صوت أمي، لتخبرني أن أستيقظ لأصلي ثم أذهب إلى غرفتي، فهي لا تعلم ما أعيشه كل يوم في حضنها، فأطلب منها الانتظار قليلاً فتصر أن أستيقظ من أجل أن أذهب وأرتاح جيداً، لأبدأ يومي الجديد بنشاط وتفاؤل. ذلك الصوت الذي يذكرني كل يوم أن هناك أمل وسعادة تنتظرني مع كل نفس أتنفسه. اختم بالقول إن وجود الأم هو أجمل هدية من الممكن أن يملكها أي شخص، فيا رب العالمين لا تحرم أحد من مصدر القوة والأمل التي نستمدها منك وممن نحب، وأدعو بالرحمة والصبر لكل شخص قد فقد أمه، وعسى أن يعينهم رب العالمين ويعوضهم بالصبر والتحمل على فراقها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.