شعار قسم مدونات

لا يوجد سياسة.. كيف يتحكم المزاج العسكري بالجزائر؟

blogs الجزائر

لم يحم الإجراء الوقائي بومدين من أحكام المزاج العسكري، فقد تمكن الضباط المنحدرين من الجيش الفرنسي من إحكام السيطرة على الجيش، وأزاحوا بومدين نفسه، عبر تسميمه، وأقصوا الشخصيات المدنية التي كان يمكن أن تحل مكانه، وتمثلت في وزير الخارجية بوتفليقة والسكرتير العام لجبهة التحرير الصالح يحياوي، وجيء بعسكري آخر، لم يعرف طيلة حياته سوى حياة الجيش والارتقاء في رتبه ومدارجه، وهو الشاذلي بن جديد. وستستمر طيلة فترة الرئيس العسكري الجديد سيطرة الجيش وأجهزته الأمنية على مفاصل الدولة وعلى حياة الناس، مثل ما كانت عليه على عهد الرئيس بومدين، وإن كان الجزائريون يظهرون احتراما لفترة الأخير وتعلقا محسوسا به، بسبب قوة الدولة على عهده خاصة على الصعيد الخارجي، وكذلك لكونه حقق طفرة صناعية نوعية وأحدث نقلة في حياة الجزائريين، وأكثر منها أنه انحاز للفقراء.

وبسبب كل ذلك التاريخ الحافل بوجود العسكر في حياة الناس، لم تكن سطوة الأجهزة الأمنية وتغوّل ضباط الجيش وأفراده في التفاصيل المعاشة، تشكل جديدا لدى الجزائريين أو تدفعهم للامتعاض من ذلك الواقع، بل على العكس، كان ذلك تصديقا لقوة الدولة وهيبتها وإثباتا على وجودها. لكن مع مرور الزمن والتطورات التي طرأت على المشهد السياسي المحلي والعالمي، كان هناك من تبرم من تلك السطوة، وانتهى به المطاف إلى رفض الوجود العسكري في الحياة السياسية والعامة، وسعى جاهدا للتخلص منه، إنه الرئيس الشاذلي نفسه!

لقد خاطب الجزائريين ذات يوم من سبتمبر 1988، ممتعضا ناقما على الوضع، موجها اتهاماته شرقا وغربا للمسؤولين عن النظام، ولم تمضي سوى أيام لينفجر الوضع وتندلع أحداث الربيع الجزائري، يوم 05 أكتوبر 1988، ويخرج الشعب للشارع مطالبا بالحرية والديمقراطية. بالنسبة لكثيرين كان ذلك تطورا طبيعيا في ذهنية ووعي الشعب الجزائري، الذي نفذ صبره على الحكم العسكري، وعلى ما نجم عنه من تدهور في الوضع الاقتصادي والاجتماعي، لكن بالنسبة للعارفين والمتابعين، كان ذلك انقلابا قاده الشاذلي بالتنسيق مع أجهزة استخبارات دولية غربية قوية، للتخلص من هيمنة العسكر، ولإخراج الجزائر من المعسكر الشرقي، وفتحها على اقتصاد السوق، في سياق رياح التغيير التي هبت على الاتحاد السوفياتي والدول التي كانت تسيير في فلكه.

انقلب جنرالات الجيش على الديمقراطية، وأدخلوا البلاد في حمام دماء كبير، وفي حريق أبى أن ينطفئ، ولم تدم فترة حكم الزعيم التاريخي بوضياف سوى أشهر معدودة، ليخلفه وجه عسكري ثوري قديم

فهم جنرالات الجيش الدرس سريعا، وعجّلوا بالتأقلم مع الوضع ورد الصاع للشاذلي، واتخذوا التدابير اللازمة للدفاع عن وجودهم ومصالحهم، ولم يكن الحل أمامهم سوى تفجير الوضع كليا، وتهديد الغرب بنفس السلاح الذي استخدمه ضدهم وهو الديمقراطية، وإذا كان لابد من تسليم السلطة للشعب، فلتسلم إذا لعدو الغرب الأول، وللجناح الأكثر تطرفا فيه، ولم تكن أيدي الجنرالات بعيدة عن سيناريو بعث الحزب الإسلامي المتشدد للوجود، والذي سيستحوذ على الأخضر واليابس خلال سنتين من وجوده، وسيسقط في يد الغرب، ولا يجدون بدا من دعم العسكر من جديد، لتصحيح الخطأ ولإعادة المارد إلى قمقمه، وتتم التضحية بالحليف بالشاذلي، وهو أمر مشابه لما حدث لاحقا بمصر بعد ثورة 2011.

انقلب جنرالات الجيش على الديمقراطية، وأدخلوا البلاد في حمام دماء كبير، وفي حريق أبى أن ينطفئ، ولم تدم فترة حكم الزعيم التاريخي بوضياف سوى أشهر معدودة، ليخلفه وجه عسكري ثوري قديم، ثم وجه عسكري جديد من جنرالات الجيش العاملين، في أوضح تجليات النظم العسكرية، واكتشف الجزائريون أبشع صور حكم العسكر خلال سنوات هذه الحقبة السوداء من تاريخهم، وسلمت البلاد بأكملها لضباط الجيش وأجهزته. لكن حين وصل هؤلاء بالبلاد لوضع مسدود، وفشلوا في إطفاء الحريق الذي أشعلوه بأيديهم، وخشوا من انقلاب السحر على الساحر، وتخوفوا أكثر من المجتمع الدولي، لم يجدوا بدا من الاستنجاد بوجه مدني من حقبة ماضية، سبق لهم تحييده من الحياة السياسية، وبقي هو يرتقب وينتظر. قام العسكر بتنصيب بوتفليقة سنة 1999 في سدة الحكم، وسلموه منصب الرئاسة مقابل حزمة شروط وضعها، بعد أن تم رفضها سابقا سنة 1994، لتضطرهم الظروف والتغييرات الخارجية، للذهاب إليه مذعنين، لكن بوتفليقة سنة 1999 هو غير بوتفليقة 1979، ولا هو محمد بوضياف السياسي الطيب.

استلم بوتفليقة الحكم، وشرع من فوره في تجسيد انتقامه القديم، وبدأ يعد لانقلاب متكامل على منظومة الحكم العسكرية التي جاءت به، سمح لكثير من ضباط الجيش المعارضين بالتسلل للخارج، ونشر شهاداتهم حول جرائم الجنرالات وما اقترفوه خلال سنوات العشرية الدامية في حق الشعب، وبدأ من سنة 2000 في حملات دعائية ومهرجانات شعبية حاشدة، من أجل صناعة التفاف شعبي حوله وتشكيل دعامة حاضنة له، وساعدته أسعار البترول الذي ارتفع بشكل كبير بسبب حروب جورج بوش الإبن، في إطلاق برنامج إنعاش اقتصادي وطني بعد السنوات العجاف، التي عصفت بالجزائريين، فتمكن من حصار منظومة العسكر داخليا وخارجيا، ووجه لها الضربة القاضية سنة 2004، حين تخلت عنه في الانتخابات ودعمت منافسه بن فليس، لكنه انتصر بنسبة ساحقة.

ولا يتصور أنّ بوتفليقة قد حقق ذلك النصر فقط بالخلفية المدنية، وبالمؤسسات السياسية، لكن نجح في مشروعه عبر مكره وحنكته السياسية وعلاقاته الداخلية والخارجية، والتي وظفها في شق صفوف المؤسسة العسكرية وضرب نواة دولة العسكر، وتحصيل حلفاء من داخلها، فأحاط نفسه بمجموعة ضباط قدماء، استغل في استجلابهم، عامل الجهوية وعامل الخلاف بينهم وبين المتنفذين في المؤسسة. استشعر الجزائريون مع منتصف العشرية الأولى في الألفية الجديدة تراجع نفوذ العسكر، وأضحى بإمكانهم لأول مرة أن يتذمروا على تصرفاتهم، وأن يتداولوا أسماء كبرائهم، التي كانت من المحظورات، بل بات في إمكانهم الطعن فيهم، والذي كان في السابق مرادفا للطعن في الذات الإلهية.

لم ينعم الجزائريون كثيرا بزوال سطوة العسكر، فخلال السنوات القليلة التي انزاح فيها شبحهم من الساحة، ظهرت للوجود عصبة أخرى، عبثت بمقدرات البلاد وبأمنها وسياستها
لم ينعم الجزائريون كثيرا بزوال سطوة العسكر، فخلال السنوات القليلة التي انزاح فيها شبحهم من الساحة، ظهرت للوجود عصبة أخرى، عبثت بمقدرات البلاد وبأمنها وسياستها
 

أضعف جهاز الاستعلامات العسكرية، الذي كان يمثل عقل الجيش ونواته الصلبة المتحكمة، ويوازي جهاز الاستخبارات في دول أخرى، وتراجع للوراء خلف الكارتل الجديد المكون من رئيس الجمهورية، محاطا بمجموعة لواءات عسكرية متحالفة، ومنهم قائد أركان الجيش، الذي بفضله رجحت كفة مؤسسة الرئاسة، وترهلت العصبة العسكرية السابقة شيئا فشيئا وتفككت عراها، حتى كانت نهايتها سنة 2015 بإقالة رئيس الجهاز محمد مدين وحل الجهاز نفسه، وإلحاق ما بقي منه برئاسة الجمهورية.

لم ينعم الجزائريون كثيرا بزوال سطوة العسكر، فخلال السنوات القليلة التي انزاح فيها شبحهم من الساحة، ظهرت للوجود عصبة أخرى، عبثت بمقدرات البلاد وبأمنها وسياستها، إنها طبقة رجال المال الفاسد، التي سيطرت على مفاصل الدولة وعلى مؤسساتها، وجيرتها في خدمة مصالحها، وبات الجزائريون مخيرون بين أمرين أحلاهما أشد مرارة من الآخر، القبول بالواقع الجديد المطبوع بالفساد السياسي والمالي، الذي يستنزف البلاد ويغرقها شيئا فشيئا أو العودة لحكم العسكر من جديد!

ورغم أن الجزء الأكبر من وجوه المؤسسة العسكرية القديمة المتنمرة قد خسر نفوذه وانتهى وجوده، ورغم أن الدولة العميقة القديمة قد انحلت، فإن مرض الرئيس وزوال قبضته الحديدية عن حكم البلاد، قد بعث انشقاقا وسط معسكره، بين المجموعة العسكرية والمجموعة المالية، والصراع يزداد احتداما بينهما، وإن كانت القرائن تشهد بتفوق الجناح العسكري واقتراب عودة الجزائريين من جديد لحكم العسكر، فإن الجناح الآخر يحتفظ بأوراق مهمة ومنها الدعم الخارجي، والأيام حبلى بكل جديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.