شعار قسم مدونات

عن السينما العربية الشابة ومصائرنا المأساوية!

blogs عيار ناري

لم أتخيل أن أجد نفسي يوماً في مسرح جريمة قتل في السويد. حدث ذلك في صباح 9 تشرين الأول / أكتوبر، حيث كنت بالقرب من موقع جريمة بسوق روزنغورد في مالمو السويدية. أرسلت ما صوّرت بهاتفي إلى التلفزيون السويدي مع اقتباسات لشهود وشرطي ساهم بإغلاق المكان. الضحيّة والمشتبه به ينحدران من بلد عربي واحد. حاولت أن أقترب من مسرح الجريمة لأحصل على معلومة، مع أنّي لم أكن أريد أن أصدّق أن شخصاً قد قتل للتو.

تعاملت السلطات مع الحادثة بحذر؛ فالشرطة لا تُعتبر “صديقاً” في مناطق ذات أغلبية مهاجرة. تجارب البعض منهم سيئة مع الشرطة في بلدانهم الأصلية. وقد وقعت الحادثة بعد انتخابات تقدّم فيها حزب ديمقراطي السويد، اليميني الشعبوي المحافظ، بفوزه بنسبة 17.6٪ من الأصوات؛ وبعد سلسلة حوادث إطلاق نار وقتل مرتبطة بمهاجرين. وقال ماغنوس بيترسون، المدعي العام الذي يتولى القضية، إن رجلاً اعتُقل كونه “مشتبهاً به في ارتكاب جريمة القتل” وأن الشرطة ستجري مقابلات مع الشهود. وصرّح بيترسون للتلفزيون السويدي قائلاً: "لا أستطيع ولا أريد أن أعلّق عن كيفية انخراطهما في الشجار."

شاهدت في مساء اليوم ذاته الفيلم المصري “عيار ناري” والذي عُرض في ختام مهرجان مالمو للسينما العربية بدورته الثامنة. وعلى مدار 95 دقيقة يتمحور الفيلم حول تقرير الطب الشرعي لتشريح جثة “القتيل / الشهيد” علاء أبو زيد (أحمد مالك) التي تصل إلى المشرحة على أنها لأحد المتظاهرين من ضحايا اشتباكات مع الأمن أثناء مظاهرة بالقاهرة. بالتشريح يستنتج مُعدّ التقرير، د.ياسين المانسترلي (أحمد الفيشاوي)، أن القتل تم بعيار ناري في البطن ومن مسافة قريبة؛ ما نفى عن الضحية صفة “الشهادة”، وبالتالي "البطولة".

لا زالت غير مصدّق أن طفلاً قُتل أمام عيني رمياً بالرصاص. كل ما استطعت فعله هو نشر شهادتي في مقالة عساها تكون مفيدة لقضاء سيحقق يوماً في الحادثة

يُسرَّب التقرير للصحافة ما يتسبب بغضب شعبي؛ وتطال د. المانسترلي، وهو السِّكِّيْر الذي يعاني مشاكل عائلية، اتهامات سياسية وأخلاقية. احتواءً للموقف، تزوِّر د.محاسن (صفاء الطوخي)، مديرة المشرحة، تقريراً يزعم أن الضحية توفي بعيار ناري في الظهر من مسافة بعيدة؛ ما يوحي بأنه “شهيدٌ” قُتِل برصاص قناص تابع لوزارة الداخلية. يبحث الطبيب بمساعدة الصحفية مها عوني (روبي) عن دليل على صحة تقريره؛ ويتغير جرّاء نتائج بحثهما وجهات نظرهما لمفاهيم كالحقيقة واليقين وترتيبهما لأولويات قِيَمِيّة كآداب المهن والأخلاق؛ ما يضعهما أمام معضلة تتطلّب قراراً حاسماً. والفيلم دليل آخر على عمق مأساتنا فمؤلفه هيثم دبور، 31 عاماً، ومخرجه كريم الشناوي، 26 عاماً، شابّان مدركان لمعاناة الشباب العربي اليوم.

عاد بي “عيار ناري” وجريمة روزنغورد إلى حادثة مأساوية حصلت أثناء تغطيتي لعمل بعثة الأمم المتحدة للمراقبة في سوريا (UNSMIS) في مدينة درعا، جنوب البلاد، في نيسان / أبريل 2012. حينها قُتِل أمامي الطفل نورس الغزاوي بعيار ناري في البطن. فقد قذف متظاهرون مناهضون للحكومة حجارة لاستفزاز جنود الجيش الحكومي المتواجدين في مسجد، وأنزلوا العلم الحكومي من هناك؛ فأطلق الجنود الرصاص في الهواء، وقُتل الطفل بالقرب من المراقبين الأمميين الذين سارعوا بالمغادرة. وشكّكت زميلة مصوّرة بمقتل الطفل بقولها: “وما يُدريك أن من قتلوه ليسوا إرهابيين يرتدون لباس الجيش؟”

لا زالت غير مصدّق أن طفلاً قُتل أمام عيني رمياً بالرصاص. كل ما استطعت فعله هو نشر شهادتي في مقالة عساها تكون مفيدة لقضاء سيحقق يوماً في الحادثة. حتى السينما صارت وسيلة تعذّب أرواحنا المرهقة. تطاردنا لعنة دمائنا مسفوحة في الأوطان والمهاجر وتلطّخ حتى شاشات السينما. تمارس أنظمة الحكم في بلداننا العربية القمع والإرهاب سرّاً وعلانية. حلولهم؟ إنّهم يقرؤون نفس الكتاب: “قيدت القضية ضد مجهو”. آخر مآسينا مصير الصحفي السعودي جمال خاشقجي المجهول منذ اختفائه إثر دخوله قنصلية بلاده في اسطنبول التركية مطلع الشهر الحالي. أتمنّى أن يكون خاشقجي بخير ويعود إلى أسرته وقُرّائه. تلقيت منذ أيام بطاقات لحضور فيلم سينمائي هدية شكرٍ من التلفزيون السويدي. لكنني لا أعتقد أنني جاهز لتلقّي “عيار ناري” آخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.