شعار قسم مدونات

سنوات الضياع.. هل أصبحنا نستمتع بواقعنا المذل؟

blogs تأمل

يوم الخميس من كل أسبوع هو يوم العبث مع الحروف في محاولةٍ لإنتاج خربشات جديدة، يقابلها عقلُ وقلبٌ يأبيان الحديث حول شيءٍ سوى ما نعيشه من مأساة، ويكأن العُمر توقف أمام تلك المرحلة التي قضت الحماقة فيها على أرواحنا. وتبقى دائماً المشكلة التي أواجهها، هي اختيار العنوان المناسب لما أخط أو أكتب؛ إلى أن صدم رأسي اليوم عنواناً بائساً، لربما هو الأجدرُ على وصف الأعوام الأخيرة لما عشناه كشبابٍ مصري من مآسٍ وكوارث بحق إنسانيتنا التي ما تبقى منها مثقال حبة من خردلٍ في الأرض، وأُصلّي لربِ السماء كل يوم علّه ينفخ فينا من روح رحمته، فنواصل المسير في طريق البؤس الممدود أو يعوضنا فيما عنده عما فقدناه في الأسفل.

سنوات الضياع، اسم مسلسل تركي شهير، اقتحم شاشات البيوت المصرية في فترةِ ما قبل ثورة يناير وخلالها، وكأنه نذير أرسله لنا القدر كي يرسم لنا – بعنوانه فقط – خارطة سنوات أو رُبما عقود قادمة. تابع المشاهدون منذ أولى حلقات المسلسل الصراع الذي دار بين البطل – فقير الحال ضعيف الساعد – (يحيى) وبين مجتمعه الصغير المتمثل في حارته الضيقة محاولاً نيل قلب عشيقته (رفيف) فاضحاً لها جُل نواياه والتي تلخصت في حبه الذي لا ينقطع. ورغبته الشديدة في الحفاظ عليها من أظافر (عمر) ابن مالك الشركة التي تعمل لصالحها (رفيف).

مالنا حين نحب لا نصل! أحببنا أوطاناً أقصى ما أوصلتنا له هي السجون، وأحببنا رفاقاً هجرونا والحبَ، وأحببنا مِهناً وأعمالاً لم تُحبنا، حتى أنها أهانتنا أحياناً كثيرة.

عاش (عمر) أيام وشهور، وحلقات عاش معه المشاهدون ينشدون كما لو كانوا يملكون من الأمر شيء لجمع شملِ الحبيبين، إلى أن صُدموا هم أنفسهم فيما خبأه المؤلف عن شخصية (رفيف) الهزيلة و (عمر) الذي يستغل كل ما يملُك من أموال وأيدٍ طائلة لكي يُدمر هذا الحب الصادق منذ اللحظة الأولى ويحوله إلى حب الوصول والشهرة والمصلحة بعد أن اتخذ من (رفيف) وجهاً إعلانياً لأعماله ولشركاته الخاصة. فلا هو أحبها، ولا تركها لمن أحب الحب من أجلها، بل أصر (المُغتصب) على ألا يبيت (يحيى) بعدها ليلة إلا في السجن!

توقفت قليلاً أمام هذه النهاية التي تحولت من كونها مصيرٍ سينمائي يكتبهُ مؤلف أطلق لخياله العنان، إلى مصيرٍ محتوم واقعي يجد فيه نفسه من يُخلص في الحب أسيراً لسجون الأوطان المظلمة، فكم رأينا على مدارِ سنوات من (يحيى) كانت نهايته على يد سجان خلف أسوار الوطن الشاهقة التي ضُربِت بين الوطن وبين محبيه، أسوارٍ باطنُها لم تعرفُ أبداً رحمة، ولم تخلُ ساعةً من عذاب. كم درسنا على مدار أعوام أن حب أوطاننا لهو شطر من الإيمان، وكم ذرفنا دموعاً كلما سمعنا لطفي بوشناق يدندن "حب الوطن إيمان.."، لكن الحيرة التي تمكنت منا اليوم تطلق أسئلتها دون توقف، هل ما درسناه كان مغلوطاً؟ أم ما سمعناه من بوشناق كان محض نغمٍ أطربنا فأحببناه، أم أن اغتصاب الحقوق طال حقنا في الحب بلا رحمة أو هوادة حتى بتنا نستمتع دون مقاومة!

مالنا حين نحب لا نصل! أحببنا أوطاناً أقصى ما أوصلتنا له هي السجون، وأحببنا رفاقاً هجرونا والحبَ، وأحببنا مِهناً وأعمالاً لم تُحبنا، حتى أنها أهانتنا أحياناً كثيرة. فمال حظنا في الحياة لا يتبسمُ مثل الذي أقسم على ألا يتغير مُحياه بائساً ناقماً علينا، وكأننا خُلقنا للبؤس، أو جُعلنا لنحبه فهو الحب الوحيد الذي سيكتمل – ربما – ولن يقوى على تفريق أطرافه أحد. مالنا صرنا نستأنس ضياعنا، نستمتع بغرقنا في بحر اللاشيء حتى أن استغاثتنا لا تُسمع وإذا أسمعت لا تُفهم. مال الموت أراه طماعاً متعجلاً يحصد أرواحنا مرات ومرات وهو يحوم حولنا في جلاله لا ندري متى يقتحم علينا خلواتنا ويختطفنا ليصعد بنا إلى المعلوم المجهول ليضع حداً لشبه الحياة التي نعيش ويعلنها مدوية "لن نحقق ما تمنيناه، لن نلحق بقطار النجاة، حتماً لن نلون ما رسمناه".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.