شعار قسم مدونات

وما أنا إلا نبتةُ أمُي وأبي!

blogs أمومة

في أحد مشافي الجمهورية السورية وبالتحديد العاصمة دمشق أطلقتُ أول صرخاتي معلنةً انضمامي لهذا العالم الفسيح، مشهد ولادتي كأنني أراه من شدة وصف أبي الدقيق له كلما سنحت له الفرصة لذلك، أب وأم ينتظران مولودهم بفارغ الصبر والجنس غير معروف، تترقب أمي بشغف لحظة الولادة وتدعو الله أن يكون هذه المرة ذكر لتتخلص على حد قولها من كلام الناس، وخرجتُ للدنيا وإذ بالطبيبة تبشُر أمُي بقدومي قائلةً: "حمدلله على السلامة إنها عروس" وهنا صمتت أمي وبدا عليها الحزن، عرفت الطبيبة حينها أن بِشارتها لم تكن في محلها والتزمت الصمت. كنت أنا الفتاة الخامسة في العائلة، المشهد بقى صامتا ليقطعهُ صوتُ أبي مداعباً أمي اُنظري إنها "مثل القمر" ليهون عليها، لكن أمي لم يجول بخاطرها أي شيء سوى أنها مضطرة لتخوض تجربة الإنجاب بعد فترة قصيرة لتأتي بالصبي الذي سوف يُريحها من كلام الناس.

أُشفق على أمُي مما عانت وهي تسمع بعد كل تهنئة بالمولودة التي هي أنا عبارة "الله يعوض عليك"، وأيضا أشفق على أبي الذي لم يُظهر رغبتهُ الطبيعية في أن يكون المولود صبي لمبالغته في إظهار مشاعر الفرح بقدومي، حتى أنه لم يقبل الاسم الذي أرادته أمي لي، وانتقى لي اسم يرافقني طيلة عمري ليكون فخرا لي وهو اسم أول شهيدة في الإسلام، وأنا صغيرة لم أكن أحُب هذا الاسم كثيرا لكن عندما كبرت عرفت أن أبي حمّلني أمانة دون أن ينطق بها، وهي أن أكون على درب من حملتُ اسمها وهي السيدة "سمية بنت خياط" التي لم ترضى الدنية في دينها ودفعت ثمن باهظ مقابل ذلك وهو حياتها وكانت أول شهيدة في الإسلام، إنها أمانة يا والدي رأيتها في كل أفعالك، أشهد الله أني رأيت فيك الصلاح منذ نعومة أظافري، رأيتك صائما، قائما، قارئأ للقرآن حتى أنك لم تخبرنا حتى يومنا هذا بعدد الأجزاء التي تحفظها حتى لا يدخل الكبر والرياء إلى نفسك لأنك دوما كنت تردد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ".

لا أتعجب عندما أكون في أي مكان وأعُرف بنفسي "فلانة بنت فلان "وعندها تبدأ عبارات الشكر والثناء فأنت تستحقها يا والدي، لا أتحدث عنك اليوم ليقولوا أبٌ عظيم، ولا أكتب محاسنك لأفتخر بها أمام الناس فأنا أفتخر بك منذ أن اقترن اسمي باسمك في شهادة ميلادي، بل أكتب أولا: لأوفيك ولو جزء بسيط من صنيعك معي ومع إخواتي يا أبي، وثانيا: أكتب لأعطي دفعة أمل للآباء والأمهات ممن يعانون من تأنيب الضمير تجاه أولادهم لعدم مقدرتهم على تلبيتة كل رغباتهم وطلباتهم لأن الأبناء ينظرون لذلك على أنها قسوة في المعاملة، ليس عيب أن نحرم أبنائنا من أشياء ليشتد عُودهم ويعرفوا أن الحياة ليست دائما وردية، بل في كثير من الأحيان تكون مؤلمة بل وقاسية، ليس عيب أن نراقبهم بهدف حمايتهم من الوقوع في الرذيلة التي باتت سهلة في يومنا هذا، لكن مع عدم تضييق الخناق عليهم، لابد من ترك مساحة من الحرية لأنهم سيواجهون الحياة بمفردهم عندما يكبرون، وعلينا أن نوجه من بعيد لتعود البوصلة للمكان الصحيح ولا مانع من تركهم يخطئون وحينها سيتعلمون الصواب.

ربما تنصاعوا لأوامر والديكم إما خوفاً أو ضجراً وأحيانا محبةً، لكن عندما تكبرون سيصبح الخوف منهم عليهم خشية أن تفقدوهم في أي لحظة، وستندمون أنكم في يوماً ما اضجرتم من طلباتهم
ربما تنصاعوا لأوامر والديكم إما خوفاً أو ضجراً وأحيانا محبةً، لكن عندما تكبرون سيصبح الخوف منهم عليهم خشية أن تفقدوهم في أي لحظة، وستندمون أنكم في يوماً ما اضجرتم من طلباتهم
 

كنت أظن تضيق أبي علينا قسوة، وكنت أظن منع أمي بعض الأشياء التي نُحب حرمان، ولكن عندما كبرت عرفت أن ما كنت أظنها قسوة كانت هي الحنان ذاته، وما كنت أظنه حرمان كان هو العطاء. ما زال أطفالي صغار ولم أقطف ثمار تربيتي لهم، لكني سأهمسُ لكم بسر من أسرار تربية أبي وأمي لم يبوحا به صراحة بل فهمته عندما أنجبت أطفالي وبدأت رحلتي معهم، وليسامحني أبي لأنه لا يحب كشف أسراره التي بينه وبين الله.

أبي كانت طبيعة عمله تستدعي السفر لمدة طويلة وبالتالي بقاء أمي وحدها تتحمل عناء رعايتنا وتأمين أمور معيشتنا، فكنت أسأل نفسي دوما ما الذي يمنعنا أنا وأخواتي من ارتكاب أخطاء كمثيلاتنا من الفتيات في سن المراهقة، وما الذي يمنع أخي الوحيد المدلل أيضا من ذلك وأخي "محمد" رزق والداي به بعد عام واحد فقط من ولادتي "أظنه جزاء رضا والداي بالمولودة الخامسة"، بعد تفكير طويل عرفت أن صبر أمي على العيش بدون رفيق دربها وهي تحتضن سبع فتيات في مختلف المراحل الدراسية وتعتني بهم وهي تتقي الله فيهم وتحفظ زوجها في غيابه في نفسها وفي ماله، وصبرُ أبي على البقاء وحده مدة طويلة متنقلا بين عدة بلدان ليؤمن لنا رغد العيش متعمداً حرمان نفسه من المُتع الموجودة في تلك البلدان لأننا لم نكن برفقته، فعرفتُ حينها أن تقوى الله هي الأساس في حياة أي انسان.

رسالة أخيرة للأبناء: ربما تنصاعوا لأوامر والديكم إما خوفاً أو ضجراً وأحيانا محبةً، لكن عندما تكبرون سيصبح الخوف منهم عليهم خشية أن تفقدوهم في أي لحظة، وستندمون أنكم في يوماً ما اضجرتم من طلباتهم، وستكون كل أفعالكم لهم محبة لأنكم ستعلمون حينها معنى الآية التي كنا نرددها دوما في الصف الأول دون استشعار معناها "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا" فاغتنموا الفرصة قبل فوات الأوان فوالديكم هما تأشيرة الدخول لكل مكان في العالم سواء كان المكان للعمل أو للدراسة أو حتى لقلوب الناس لأن رضاهم سبب توفيق الله لكم والفوز بالجنان، اللهم بارك لنا في آبائنا وأُمهاتنا واغفر لنا تقصيرنا معهم ووفق أبنائنا لما تحب وترضى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.