شعار قسم مدونات

مرضى الثلاسيميا.. حياتهم في نقل الدم!

blogs نقل الدم

أثناء الفترة التدريبية التي قضيتها في قسم الأطفال بالمستشفى كطبيبة متدربة، صادفت حالات عديدة ومختلفة منها الأطفال الرضع الذين يصابون بالجفاف الحاد إثر إسهال خطير، وآخرون كادت الحرارة المرتفعة أن تودي بحياتهم، ورضع آخرين أصيبوا فجأة بتلون أصفر لجميع أنسجتهم، ومرضى حملهم آباءهم بسرعة إلى المستعجلات بعدما دخلوا في نوبة تنفس حادة. لكن ما أثار انتباهي أكثر وبصم مشاعر الحزن والأسى في قلبي هم أطفال مختلفون لكنهم متشابهون، يتقاسمون نفس المعاناة والمرض ونفس الشكل الذي آلوا إليه. هؤلاء المرضى هم مرضى الثلاسيميا.

والثلاسيميا مرض وراثي مزمن غير معد من أكثر الأمراض الوراثية انتشارًا. يعرف أيضا بمرض فقر دم البحر الأبيض المتوسط وتعود تسميته بسبب انتشاره بشكل أكثر في منطقة دول حوض البحر الأبيض المتوسط. وينتقل هذا المرض من الآباء إلى الأبناء عبر الجينات. فلكل صفة في الإنسان مورثتين إحداهما من الأب والأخرى من الأم. ومن هذه المورثات ما يحدد إنتاج مادة الخضاب الدموي (الهيموجلوبين)، المسؤولة عن حمل الأكسجين إلى مختلف الأعضاء وكذا عن لون كريات الدم الحمراء. ويتكون خضاب الدم (الهيموجلوبين) من سلاسل الجلوبين التي قد يحدث خلل في مورثتها مما يؤدي إلى مرض الثلاسيميا.
 
قضيت شهرين متتابعين في مصلحة طب الأطفال وتحديدا بمركز علاج الثلاسيميا. حيث يتوافد يوميا ما يقارب 40 إلى 60 مصاب بهذا المرض. لكل واحد منهم تجربة خاصة وقصة مختلفة مع هذا الاعتلال الذي تسلل إلى حياتهم ودمر أجسادهم بدرجات متفاوتة. ويجدر الإشارة إلى أن هناك اختلاف بين حامل لمرض الثلاسيميا والمصاب به، حيث إن هذا الأخير يكون حامل لمورثتين لمرض الثلاسيميا وتظهر عليه أعراض فقر دم شديدة وشحوب أو اصفرار في الوجه وإرهاق في الجسم وتشوه في العظام وتأخر في النمو وتضخم في الطحال والكبد، ويكون بحاجة إلى نقل الدم بشكل منتظم ليتمكن من الحياة بشكل طبيعي. بينما حامل المرض مصاب بمورثة واحدة، وتظهر عليه أعراض بسيطة مثل فقر دم بسيط يُكتَشف بالصدفة بعد إجراء تحاليل روتينية للدم.
  

بسبب نقل الدم بشكل دوري، يتراكم الحديد في الجسم ويتكتل وبالتالي يحتاج المريض إلى بعض الأدوية التي تطرد هذا الحديد وتخرج مرتبطة به لخارج الجسم عن طريق البول

ولا شك أن مرضى الثلاسيميا تواجههم عقبات إذا ما لم يتم السيطرة على المرض حيث إن العلاج مكلف من الناحية المادية ومؤلم من الناحية المعنوية والنفسية. تحكي لي مريم البالغة من العمر 16 سنة، وهي إحدى المصابات بمرض الثلاسيميا الذين صادفتهم أثناء فترة تدريبي، أن أكبر عائق يواجهه المريض هو أن يجد نفسه مرفوضا من طرف مجتمعه. فطالما أزعجتها نظرات الناس إليها في الشارع بسبب تغير ملامح وجهها إثر إصابتها بالمرض. أما بشير البالغ من العمر 13 سنة، يجد صعوبة كبيرة في التنقل من بيته إلى المركز كل أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع نظرا لبعد المسافة. حيث إنه يحتاج لنقل الدم بشكل مستمر، فقد أصبح المستشفى هو بيته الثاني.

 
وبسبب نقل الدم بشكل دوري، يتراكم الحديد في الجسم ويتكتل وبالتالي يحتاج المريض إلى بعض الأدوية التي تطرد هذا الحديد وتخرج مرتبطة به لخارج الجسم عن طريق البول. وتبقى عملية زراعة النخاع العظمي هي العلاج الجذري لهذا المرض. أما بالنسبة للوقاية، فهناك مجموعة من الفحوصات التي يجب القيام بها قبل الزواج لحماية الأبناء من الإصابة بالمرض في المستقبل.

إن مرضى الثلاسيميا يريدون أن يفرحوا ويعيشوا ولو لحظة دون أن يخطر ببالهم أنهم مصابون بالمرض. يريدون أن تتحقق أحلامهم وتزهر حياتهم بعيدا عن الهم الكبير الذي يحملونه. لذلك، يجب أن نعلم جميعا أن تبرعنا بالدم، تلك العملية البسيطة التي تأخذ من وقتنا أقل من عشرين دقيقة، تسهم في علاجهم وتمسح الدمع من أعينهم وتعطيهم الأمل في الحياة. فلنجعل هاجسنا الأكبر هو التبرع بالدم من أجلهم، حيث إنها من أروع الصدقات التي نشكر بها الله تعالى على نعمة الصحة، وهي صدقة جارية نمد بها الحياة لمرضى الثلاسيميا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.