شعار قسم مدونات

ما بعد الزواج.. تفاصيل الحياة التي يغلفها الحب

blogs الحب

"الفرق بين المودّة كلفظ والحبّ كلفظ، أنّ الأُولى إشارة إلى القليل من الثّاني، أي المودّة هي القليل من الحب والقليل من الحب بين الزّوجين يكفِي، وما جاءَت الرّحمة عطفاً إلاّ لتعزيزِ الوُد ليَطول الأمَد"

–  دعاء علي

في كلّ مرّة نذْكُر فيها الزّواج مع الحب مُقترِنَين، إلاّ وظهر أمامَنا رأيانِ مختلفان حولَهما، الأول وهو أنّ الزّواج قاتِل للْحب بل هو مقبرة له، والثّاني يقُول إنّما الحُب بعد الزّواج، ولكن الأكيد والصّحيح هو أن روح الحب وجَب أن تكون ساريّة بين الطّرفين قبل الزّواج وبعدَه، إذا ما أردْنا أن نقول عنْه أنّه زواج ناجح.

تعدّ فِترة الخطوبة عادة للتّعارف والتّقارب بين الطرفَين، وغالباً ما يَطغَى عليها الجَمَال في المشَاعِر وإِعطَاء الحب بِشيء مِنَ السَّخاء، وإظهار كلّ فرد لأحسن ما فيه، فتحلّ الرومنسية والأحلام والأمنّيات والأوقات السّعيدة، وهذا طبِيعي جِدًا لكن وجَب أيضا المحافظة على شيء من العقلانيّة وعدَم الابتِعاد على الواقِع من خلال التّحلّي بالصّدق والوضُوح، لا أقول إظْهَار العيّوب الواحدَ تِلوَ الآخر يكْفِي أنْ يَكونَ كلّ واحِد مِنهما على طبيعَته وكما هو، لأنّ هذا أَأْمن وأسْلَم إذا ما كان الزّواج، فلا يكون هُنَاك تعرّي وتغيّر كبير فيتَفَاجأ كِليهِما أنّهما لم يعرِفا سوى القشور عن بعضهما، فيؤّثر ذلك سلباً على علاقاتِهِما لأنّ الاعْجَاز والابْهَار ليْس جمال العلاقة بيْنَهُما أثناء الخطوبة وإنّما الاعْجاَز هو اسْتِمرارها بعد الزّواج.

يقول سيدنا علي كرم الله وجهه بعد زواجه من السيدة فاطمة رضي الله عنها "فأحببتها حبا عظيما، فوالله ما ناديتها يوما فاطمة ولكن كنت أقول يا بنت رسول الله وما رأيتها إلا وذهب الهم الذي كان في قلبي ووالله ما أغضبتها قطّ ولا أبكيتها قطّ ولا أغضبتني يوماً وأذتني يوماً، ووالله ما رأيتها يوماً إلاّ وقبّلت يدَها".
  

الزّواج ليس نُقطَة نهايَة أو بِدايَة جديدَة وإنّما هو استِمْرار للْحَيْاة بل هُو إضَافَة لهَا، ويَكوُن إِضَافَة حقِيقيّة إذا كان زواجاً ناجِحاً سَعِيداً، وليس زواجاً مُستمِّراً إذا ما أَلقَيتَ بِطَرفِ عينِكَ عليْه لَفَحَتكَ نار الضّنَك الذّي يملأه

إنّما قَلْب الزّواج الحُبّ ومادَامَ الحُب يَنبُض بشَكل مُنتَظَم وجَيّد، فالزّواج بِخيْر وصِحة وعافِية، وبإمكانه مُواجهة كلّ الأزَمات والأمْراض التّي قدْ تواجِهُه، سَواء من الدَّاخِل أو الخَارِج، حتّى وإِنْ ضَعُفَ هذا النّبض أحياناً لكّن الأهّم أنْ لا يتَوقّف. فالحُب لغَة وِصَال بيْن الطّرفيْن حتّى لا يُصَاب القلْب بالخَرس، فإِذا ما نَبُت الحب بينهما كانا لبعضهما السّكن والرّاحة والمُستَراح، سَكَن مِعْياره التّقْوى والمودَّة والرّحمة، وينتمي كلّ مِنْهُمَا إلى الآخَر، فإِن انْتَمى كلّ مِنْهُما إلى الآخَر أَزْهَرَا معاً، فَكَانَ زَواجَاً طَوِيل عُمر محْمِياً مِن أيّة مَخَاطِر.

إن الطّرفين اللّذينِ يُجَسِّدَانِ المودّة والرّحمة حقيقةً هُما زوجَان تجَاوزا عواطِف الحب ليتَحوّل إلى مُمارسَة عمليّة محسُوسَة وملْمُوسَة ومُتجَدّدة، مُفْعَمَة بالجدّ والمُزاح معاً، فَصَنعَا بذلك بيْت مودّة ورحمة، قد لا يكون جنّة زواج فعليّة ولكنّه يَعجُّ بالجمَال، تدْخُلُه شَمس الحبّ ويُدَفّئه الحنان فيَكون هذا عوناً للطّرفيْن على التّشَبُث ببعضهما رغم الرّهق والانْفِلات الذّي قد يُوّاجِهانِه، فكَأنّ روح الحبّ التّي تسْري بينهما بمثابة قوة سحرية بيْن يَدَي الطّرفين يلْجآن إليْها عنْد حُدُوث أيّ تَصدّع في زواجِهِما. حبّ يسْمَح بتَحقيْق ذلكَ الاندِماج الرّوحِي الصّادق بينَهُما، فيَكُونَان كيَان واحِد بدَأ بالتّشابُه ويَدُوم بالاخْتِلاف والتّوافُق بيْن الطّرفيْن وبالتّالي انْسِجَام وتَفَاهُم يَسْمحَان بمُرُونَة كبِيرَة في التّعَامُل وعِشْرَة حَسَنة وَقُودُها حبّ ناضِج وجميل، هادِئ وعَميق بعِيد عن السّطْحيّة، وسَنَداً عنْد المشَاكِل والصّراعَات.


"
مسكين من يعتقد أن الحبّ وحده كافٍ لاستمرار الزّواج، الحب بالكاد يوصِلكما إلى عتَبة بيتِكما بفستانها الأبيض وبدلتك الأنيقة، فأما ما بعد فهو احترام وتفاهم ومودّة وتغافل وصبر ثم صبر ثم صبر"

– أدهم الشرقاوي

الزّواج ليس نُقطَة نهايَة أو بِدايَة جديدَة وإنّما هو استِمْرار للْحَيْاة بل هُو إضَافَة لهَا، ويَكوُن إِضَافَة حقِيقيّة إذا كان زواجاً ناجِحاً سَعِيداً، وليس زواجاً مُستمِّراً إذا ما أَلقَيتَ بِطَرفِ عينِكَ عليْه لَفَحَتكَ نار الضّنَك الذّي يملأه، لم يكُن الزّواج يوماً معركة أو ساحة للقتال أو صِراع في صُورة زَواج، كلّ طرف يُحاول أنْ يكون المُسيْطِر فيها، أنّما علاقة إنسانيّة تُشبِه سفينة انطلقت إلى عَرَضِ البَحر ولكنّها بربّانَين وليس رُبَّان واحِد، لَهُما نَفس المسْؤوليّة في التّقدّم بِها وفي مُواجهة جميع الاضطِرابات والأعاصِير والأمواج والمخاطِر التّي قد تُوّاجههما وسط البحر مُحاوليْن الوُصول للطّرفِ الآخر بِراحة وسلام تامّين. ولا يتأتّى ذلك السّلام إلا برَحمة مُتبادَلَة تُعينُ المُخطِئ على العودة والاعتذار والاصلاح وتَحُضُّ المُخْطِئ في حقِّه على التّغاضِي والاحتواء وقبوٌل العُذر، فيَسْهُل المَسِيْر ويتَخَفّف الحِمل على كِليهِما، في علاقة جُبِلَت أساساً على الأَكدَار.
 

حياة مليئة بالتّفاصيل التّي لا نُبدي لها اهتماماً ولكنّها روح الحبّ الرّاعية لهذا الزّواج، والتّي فَقِهَهَا الطّرفَان فمَارساها دون ملَلٍ فكانت كَفيلة بجَعلِه زواج بِعُمرٍ طَويل وجَميل في نفس الوقت
حياة مليئة بالتّفاصيل التّي لا نُبدي لها اهتماماً ولكنّها روح الحبّ الرّاعية لهذا الزّواج، والتّي فَقِهَهَا الطّرفَان فمَارساها دون ملَلٍ فكانت كَفيلة بجَعلِه زواج بِعُمرٍ طَويل وجَميل في نفس الوقت
  

وما تلك الاختلافات الشّخصية والطّباع وبعض الميّولات والاتجاهات في التّفكير والسّلوك كذَكر أو كأنثى التّي قد تَظهَر بين الزّوجين لهو أمر طبيعي ووجب التّعامل معه بمهارَة وذكاء من قِبَل الطّرفين والتّعايش معها بالتّفاهم والكثير من الصّبر والمُشاركة والصُّحبة، فتتَعدّى كونَها علاقَة حُقُوق وواجِبات فقط، من خلال زيادة الرّصيد العاطِفي في قلب الطّرف الآخر بِحُسن العِشْرة وجميل التّعامل، والدّفع بعَجلة الحياة بشَكل ايجَابي فيُؤثِّران ويتأّثرَان ببَعضِهِما ويتغيّران للأفْضَل من أجل أحَدِهما الآخَر، فيَنتُج عنْه زواج أساسُه التّفاهم والتّراضي غِذاؤُه الحبّ، والأهّم من ذلك الثّقة والصِّدق فَهُما أساسُ الاستقْرار، فهو فَريق من شخصان لا مكان فيه للتّهميش أو الغيرة أو الاهانَة والاحتقار، بعيد عن المُقارنة والتّذمّر والشّك مُرتَكِزاً على الجوانب الجيّدة منه، وبالتّالي تكوين حياة خاصة تحت سقفٍ واحد.

حياة مليئة بالتّفاصيل التّي لا نُبدي لها اهتماماً ولكنّها روح الحبّ الرّاعية لهذا الزّواج، والتّي فَقِهَهَا الطّرفَان فمَارساها دون ملَلٍ فكانت كَفيلة بجَعلِه زواج بِعُمرٍ طَويل وجَميل في نفس الوقت، فماذا عن تلك اللُّقيمَات التّي يتشَارَكان فيها في صَحن واحد، عن أوّل شجار جادّ بينهما وتصالُحِهِما فيما بعد، عن انتظارها له وقلقها عليه لتّأخّرِه عن موعد دُخُولِه، عن خَفقَات قَلبِه عند مرضها، عن إيقاظه لها أو ايقاظها له لصلاة الفجر، وتنبيها للأبناء بأن يلزموا الهدوء لأن والدهم نائم من شدة التّعب، عن خبر حملها الأوّل ومراعاته لها، والمشاعر التي تملّكتْهما الاثنين معاً، عن تحذِيرِها لابنهما لأنّه حاول أن يرفع صوته عن أبيه، عن أول خاطب لأبنتهما، وشعورهما بشيء من الشيخوخة، عن وقوفهما معا في أزمة مالية مرّت عليهما، عن عيد زواجهما الأوّل، عن تذكيرها له لموعد طبيب القلب، عن أوّل طبخة لها وتعليقه عليها، عن شرائه لأول مرة طلبات البيت، عن مراعاتِه لغَضَبِها، عن مَزحِها معه عن تاريخ آخر هدّية، عن كَرمِه معها، عن تذكّرِه لتفاصيل عنها وأخرى تحبّها، عن احتفاظها له بحصتّه من الحلوى تحت الصّحن حتى لا يراها الصّغار، عن مفاجأته لها بهدية بسيطة، عن أخباره لها بوصفة سَمِعَها عن تخفيف ألم القُولون، عن إعدادها للطبخة التي يحبّها.

هو عمر من التفاصيل التي لا تحصى والتي تروى ولا تنسى، تخفّف وطأة الأيام الصّعبة بين الطّرفين لأنّها تُذكّرهم بأجمل اللّحظات التّي صَنَعت بٌيّوت مودّة ورحمة وليس بُيّوت من وَهَن لا يُدرِكون معنى لكلّ هذا، فبارك الله في بيت عمّره رجل بتقواه، وزانتْه امرأة بخُلُقها وباركه الله بالمودة والرحمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.