شعار قسم مدونات

خبزُُ أمي وتلك الشمس التي لم تشرق!

blogs الأم

كنا في بيتٍ بسيطٍ صغير نعيش أنا وإخوتي الصغار، ووالدي (رحمه الله) كان موظفاً بسيطاً، لكنه كان رجلَ فكرٍ واسعَ الثقافةِ، ذو حضورٍ قوي، وتأثير كبير. فحياته كانت مختلفةً جداً عن حياةِ أقرانه في ذاك الزمان (أربعينيات القرن المنصرف)، فقد كان له عالمه الخاص والذي كان يبدو غريباً بعض الشيء على أفرادِ تلك البيئة التي عاشها والدي، حيث كان يعشق المطالعةِ بشكلٍ كبير، وعلى الرغمِ من ضيقِ اليد فقد كان حريصاً جداً على اقتناء الكتبِ والمجلاتِ الثقافية.

أتذكر أنه عندما كان يعود من العمل وبعد أن يبدل ثيابه يذهب إلى مكتبته الصغيرة ويلتقطُ كتاباً وينغمسُ في قراءته إلى أن يحينُ وقتُ الغداء. لم تزل تلك الصورةُ عالقةُ في ذهني حتى اليوم، فرائحةُ كتبهِ لا زالت تحوم في ردهاتِ دماغي تاركةً أثراً عميقاً زكياً لا يمكنُ طمسه. توفيَّ والدي وما زالت مكتبته ماثلةً حتى اليوم؛ لتذكرني كل حين أن المال يذهب ووحده الفكر يبقى حياً لا يموت. لم أعد أشتمُ تلك الرائحة، ولم أعد أرى تلك الصورةُ الجميلة، صورةُ أبي والكتاب في يده، لكنني لازلت أرى وجهة أبي في صفحات كلُ كتابٍ أقرأه.

كنتُ وقتها أصحو من النومِ على رائحةِ خبز والدتي الشهي، يا الله ما أزكاها من رائحة! وما أطيبهُ من طعم! فقد كان خبزُ أمي لذيذاً شهياً ولم أكن أستطيع مقاومة رائحته الشهية، كنت وقتها أحتال على أمي لأسرق لقمةً من رغيف قبل أن أغسل يدي بالماء والصابون وسط توبيخٍ شديدٍ من أمي. والدتي ابنة ذاك الرجلُ الميسور، الذي حرص كل الحرص على تعليم والدتي وخالتي الصغرى في مدرسة البلدة وسط انتقاد شديد من رجالِ البلدة في وقتٍ كان فيه تعليم المرأةِ وذهابها إلى المدرسةِ عيبُ وذنبْ، وعلى الرغم من أن والدتي لم تكمل تعليمها إلا أنها كانت تتقن القراءةِ والكتابة بشكلٍ ممتاز، ونشأت محبةً للعلم، لذلك كانت حريصةً كل الحرص على إكمال تعليمنا الجامعي.

ما بين مكتبةُ أبي وخبز أمي حكايةُ جميلة، لا يعرفُ جمالها وروعتها إلى من عاشها. لكن في ظلِ غيابِ العدالةِ الاجتماعية ربما تتحول الحكايةُ الجميلة إلى واقعٍ مؤلم وكابوسٍ مفزع

قبل ذهابنا إلى المدرسةِ صباحاً كنا نتحلق أنا وإخوتي حول أمي، كان العرق يتصبب من جبينها كأنه شلال بسبب حرارةِ الفرن العالية، وكنا نلتقف رغيف الخبزِ قبل أن يقع على ذاك الشرشف المخملي المخصصِ لجمع الخبز، ثم بعد ذلك نغمس لقمةَ الخبز بزيتِ الزيتون الحار الطعم ونتبعها برشفةِ شاي ساخنة، ما أزكاه من مذاق! وما ألذها من وجبة! كانت أمي تعلمنا الأرقام والأحرف الأبجدية من خلال تشكيل العجين على هيئة الأرقام والحروف، هكذا تعلمنا أن كل شيء يحثكَ على العلم حتى خبزُ أمي. وجبةً لذيذة شهية، كنا نتناولها قبل ذهابنا في رحلةٍ طولة تستمرُ من الساعةِ السابعة صباحاً إلى ما بعد الظهر حتى سماع جرسِ الحصةِ الاخيرةِ يقرع، لترقص بعدها قلوبنا فرحاً بسماعِ أروعِ موسيقى سمعتها حتى الآن.

كنت أنطلق إلى البيت مسرعاً كسجينٍ فر من زنزانةِ طاغية بعد سماع صوت الجرس. مسرعاً فرحاً متلهفاً لتناول وجبةَ الغداء؛ يومٌ دراسيٌ طويل والجوع كان قد أخذ حقه من معدتي الصغيرة. فقبل تناول وجبة الغداء كان لابد أن أخضع لتحقيقِ دقيق من الوالدة، فقد كانت لا تترك شاردةً ولا واردةً إلا وتسألني عنها، وبعدها كانت تأخذ حقيبتي وتأخذ بتقليبِ دفاتري وكتبي لمعرفةِ مستوى تحصيلي الأكاديمي، كانت تفرح جداً بتفوقي وكأنها ملكت العالم.

عندما كانت أمي تلبسني حقيبتي على ظهري في الصباح، وعندما كانت تستقبلني بعد عودتي من المدرسة، كنت أرى في عينيها كلام ما زال يطرق أُذُناي حتى اللحظة وكأنها كانت تقول لي: "لقد علقتُ كل آمالي وأمنياتي عليك". نعم، على ذاك الجسد الغض الصغير الذي لا يقوى على حملِ أثقل من حقيبته المدرسيةِ. حرصُ والداي على أن نتعلم وأن نحصل على الشهادةِ الجامعية كان كبيراً جداً وربما كان أكبر من حرصهما على توفير ذاك الرغيف الذي كنا ننتظره بفارغ الصبر كل صباح، لا أعرف لماذا دائما يحضرني قول الشاعر أبو العلاء المعري، كلما تذكرتُ تلك المرحلةِ من حياتي:


وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوده أبوه

فما بين مكتبةُ أبي وخبز أمي حكايةُ جميلة، لا يعرفُ جمالها وروعتها إلى من عاشها. لكن في ظلِ غيابِ العدالةِ الاجتماعية ربما تتحول الحكايةُ الجميلة إلى واقعٍ مؤلم وكابوسٍ مفزع. وبحضورِ الفساد فإن كل شيء جميل يصبحُ شبحاً مرعباً يلتهم حتى أبسط التفاصيل الجميلة. قيل في المثل الإنجليزي أن: الشمس تشرق من أكواخ الفقراء، لنكتشف بعدها أنها تشرق من قصورِ الأثرياءِ وعِزَب المتنفذين، وأن المسافةِ ما بين البيتِ والمدرسة كانت أطول مما كنا نعتقد، وأن الحقيبة التي كان يحملها ذاك الطفل الصغير كانت أثقل من الجبال!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.