شعار قسم مدونات

ثقافة الاستنساخ.. بين كيكي النخبة وكيكي الشارع!

blogs رقص

أظنني لست مضطرا لشرح كلمة (كيكي) للقارئ الكريم؛ فهي جنون (أو عقل) تجاوز حدود البلدان والثقافات. وعلى من يقرأها ولم يفهم ما هي أن يراجع حقيقة وجوده في هذا الزمن التقني الغريب. جنون رقصة هذه الأغنية (طبعا هذا اسمها الذي اشتهر) الذي صار مادة أخبار سواء في الإعلام الغربي أو العربي، ليس سوى مادة خصبة لتحاليل أولئك الذين يحسبون أن العالم أصبح في القاع (سواء مع دريك صاحب الأغنية أو مع جماعة اسمع يلا)، أو أوهام غيرهم ممن يقبعون أمثالي وراء شاشات صامتة والعالم يسير قدما؛ تماما مثل السيارات التي تظهر في مقاطع رقصة كيكي. إنها عملية استنساخ مقرفة، وعظمة التقنية اليوم أنها أثبتت أن (القرود) يعيشون في كل مكان، وتطوروا، في بشارة للطيب داروين، حتى أصبحوا قادرين على قيادة السيارات والرقص في الآن نفسه.

وعندما تابعت أخبار سلوك المراهقة هذا وانتشار رقصة جنونية صبيانية كهذه، تذكرت كلام الراحلة عايدة الشريف عن مثقفينا المراهقين عند زيارة الفيلسوف الفرنسي سارتر إلى مصر في الستينيات من القرن الماضي. لقد سجلت عايدة في كتابها (شاهدة ربع قرن) شهادة عن واقع المثقفين حينها، الذين تحولوا إلى مراهقين (يفوقون صبيانية تلك الفتاة التي عانقت ماجد المهندس) أمام سارتر. وما أزال أتذكر صدمتي عندما اكتشفت أن بعض الأغاني والأفلام التي كانت عناوين مرحلة المراهقة ليست سوى سرقات، أو تقليد ماسخ أبله لنسخ غربية. فالمغنية المصرية سيمون سرقت ساعتها الغير مضبوطة من أغنية سوزان فيلغا (Tom’s Diner)، ولم تكن سرقة سيمون سوى مثال لمحاولة أطفال إعادة تمثيل فيلم أو مسرحية عظيمة. وهكذا كانت أفلام من مثل الإمبراطور وشمس الزناتي وغيرها محاولات مشوهة لمحاكاة أفلام غربية عظيمة (الأول من فيلم Scarface، والثاني من فيلم The Magnificent Seven).

لعل مراهقات الكيكيين لا ترتقي إلى اعتبارها أفكارا؛ ولكن طريقتهم في تلقي الفكرة هي تماما مثل تصرف المراهق الذي يملي عليه التقليد بأن يستنسخ ما (أو من) يعجب به بطريقة لا تنفك عن مستوى عمره وعقله

ولطالما تساءلت، ترى هل هذا المسخ وثقافة القرود هذه مقصورة على رقصة في الشارع أو أغاني مراهقين، أو أفلام سينما فاشلة؟ أم أن الأمر لو درس لاكتشفنا أن الأدب والفكر وغيرهما كانوا ساحات لنماذج من كيكي؟ أليس من سنن الأفكار والمدارس التي استوردناها أن تأتي إلينا بعد أن ماتت عند أصحابها؟ إن السؤال الحقيقي الذي علينا أن نواجه به المتغربين عندنا ليس عن (التغريب) في حد ذاته، ولكن مدى تمثيلهم الحقيقي لما يدعون أنهم يمثلونه (الثقافة الغربية وهلم جرجرة). إذ أن تعتقل الثقافة العربية بين مراهقي استنساخ الماضي أو أمثالهم من مستنسخي الحاضر هو إلى حد كبير ما شهدناه ونشهده طوال عقود؛ حتى أن مراهقي المثقفين عجزوا عن إتقان تقليد الفساد المستورد. هكذا تسافر الأفكار التي حررت شعوبا في الشرق والغرب؛ فتصل إلينا مسخا غريبا، وتغدو شعارات تافهة يُخدم بها مستبد، ويتبجح بها جاهل، وتصبح الفلسفة وعظا، ويتكاسل العقل العربي والمسلم عن إبداع رؤيته الخاصة، ولو كانت خاطئة، ويرضى بأن يكون مجرد شارح بائس لأفكار غيره (وشارح هذه كبيرة).

نعم، ثمة أقلام وعقول فذة عرفتها الثقافة العربية في مشهدها القريب؛ غير أن المزعج حقا أن ترى تسيّد ثقافة (كيكي) في إنتاجنا الفكري، وتصبح الأفكار كالبضائع المستوردة، وتناقش ويتصارع من أجلها وكأنها ليست نتائجا لثقافة الاستنساخ، وتُشيّد صروح من الوهم، تتقوّض عند أدنى لمسة للواقع المرير. ترى أين موضع الانهيار هنا؟ الأفكار أم أصحابها؟ ولعل المثقف الكيكي هو ممّن جمع بين وبال الاثنين معاً؛ فأفكاره أتت إليه مسافرة فغدت لديه خماصاً بعد أن كانت بطاناً في منبتها، أفقدها رونقها بالتقليد الماسخ، وقابلها بخواء ليس له مثيل، وزاد على ذلك أن أقنع نفسه بأنه من حملة الأفكار، وحقيقته أنه مجرد وعاء خاوٍ متصدع لا يقوى حتى على الحفاظ على ما وضع فيه.

علينا إذاً تحويل الأسئلة والاتهام باتجاه الأفكار ذاتها بدلا من الدوران حول من يمثلها، وأن فكرة ما لم يعبها سوى أصحابها (يؤكد صديقنا وأستاذنا عبد الله الطحاوي دوما بأن التطبيق الفاشل دلالة على فشل الفكرة ذاتها)، ولعل مراهقات الكيكيين لا ترتقي إلى اعتبارها أفكارا؛ ولكن طريقتهم في تلقي الفكرة هي تماما مثل تصرف المراهق الذي يملي عليه التقليد بأن يستنسخ ما (أو من) يعجب به بطريقة لا تنفك عن مستوى عمره وعقله، وحينما تكون حالة المراهق هذه مجرد قنطرة من قناطر العمر سرعان ما يضحك منها حال تذكرها، فإن الحالة الكيكية تستمر لدى مثقف الهزال حتى يوهب منصبا أو مكانة يطل بها اليوم على مجد عريض. هذا المجد الزائف نراه اليوم في أوراق يكتبها كيسانيو اليوم (أو كبيسيوهم)، وفي برامج ومنصات التواصل الاجتماعي (تبا لها من تسمية)، وفي أضغاث أحلام تركي الحمد، ولاءات عائض، والنسق والنسقية (التي رددها صاحب القراءة الثقافية لحصار قطر)، وبذاءات يوسف زيدان….وإلى آخر قائمة ساعة سيمون غير المضبوطة. وكيكي مباركة على الجميع!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.