شعار قسم مدونات

هاكان فيدان.. بين الواقع والأسطورة!

BLOGS هاكان فيدان

منذ محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في تركيا عام 2017، دأبت وسائل الإعلام العربية والتركية في تسليط الضوء على رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان، ونسج الأساطير حول شخصيته الغامضة، ودورها المحوري في حماية التجربة التركية وإفشال الانقلاب. ورغم أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وجه حينها انتقادات صريحة ومبطنة لهاكان فيدان على فشله في اكتشاف محاولة الانقلاب، واعترف لوسائل الإعلام التركية أنه عرف عن المحاولة الانقلابية من خلال صهره براءات البيرق، لكن أغلب وسائل الإعلام العربية أصرت بشكل غريب على إلباس الرجل حلة البطل، وبدأت بنسج القصص التي لا يعرف صحتها عن اكتشافه لمحاولة الانقلاب قبل نصف يوم من موعدها الأصلي، وإجباره للانقلابيين على تغيير موعد المحاولة من فجر 18 يوليو إلى عصر 17 يوليو.

فبغض النظر عن صحة هذه الرواية، أو عن الأسباب التي أدت إلى تقديم موعد المحاولة الانقلابية، إذا كان قد تغير من الأساس، فإن الواقع يشي أن كفاءة الرجل الاستخبارية أقل كثيراً، مما تحاول وسائل الإعلام الإيحاء به، وأن مواطن فشل الاستخبارات التركية في عهده أكثر من مواطن نجاحها، بل إنني أزعم أنه لولا وجود منظومة أمنية متماسكة لدى حزب العدالة والتنمية، لتم الإطاحة بالحزب منذ سنوات نتيجة للضعف الكبير الذي تعاني منه الاستخبارات التركية.

ولعل إلقاء نظرة تاريخية على الاهتزازت الأمنية التي تعرضت لها تركيا خلال السنوات الماضية، تجعلنا قادرين على اكتشاف وجود خلل كبير في عمل الاستخبارات التركية، فمن أزمة ميدان تقسيم عام 2013 وحتى المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2017، نستطيع أن نلاحظ أن ما يدعى بالكيان الموازي الذي يقوده فتح الله غولن، استطاع التغلغل في الجيش والأمن والقضاء وحتى التعليم، دون أن يكون هناك قدرة للاستخبارات التركية على إيقاف هذا التغلغل أو حتى اختراقه بأي شكل من الأشكال. تخيلوا مثلاً، أن الكيان الموازي قام عام 2013 بتدبير محاولة انقلابية عن طريق اعتقال وزراء من حكومة أردوغان بأمر من القضاء، ومحاولة اعتقال هاكان فيدان نفسه، بعد توجيه تهم فساد له، ولمجموعة أخرى، لتكتشف الاستخبارات التركية لاحقاً أن عشرات الآلاف من رجال الأمن القضاء يعملون لدى فتح الله غولن، ويقومون بالتجسس على حياة الوزراء الخاصة، وتسجيل أحاديثهم اليومية دون علم الاستخبارات التركية.

لا يمكن إنكار حجم التهديدات الأمنية المحيطة بتركيا، وحجم المشاكل التي تمر بها البلاد داخلياً وخارجياً، لكن بذات الوقت لا يمكن إنكار وجود خلل في المنظومة الأمنية لتركيا

وإن كان تبرير هذه الحادثة بأن الكيان الموازي يعمل على اختراق مؤسسات الحكومة التركية منذ 1990، فكيف يمكن أن نفسر محاولة الانقلاب التي حصلت بعد 4 أعوام من تصفية الموالين لغولن وعزلهم من مؤسسات من الدولة، فكيف يمكن لأي كيان أن يخترق الجيش التركي، ومؤسسات الأمن بهذا الشكل، رغم معرفة الاستخبارات التركية بخطره، وعلمها عن تغلغله منذ أربعة أعوام، تصوروا فقط، أن الكيان الموازي كان يسيطر على قوات الدرك التركية، ويخترق مكتب الرئيس، ووزير الدفاع، ويقوم بتسجيل اجتماعاتهم، ويحضر لانقلاب يشارك به المئات على الأقل باستخدام الدبابات والطائرات دون وجود أي معلومة حقيقية لدى الاستخبارات التركية، ثم يتبجح الإعلام، بالقول إنها كشفت الانقلاب وأفشلته، رغم أن المحاولة حصلت، وكاد الانقلاب ينجح لولا وجود قوات أمن مسلحة موالية لأردوغان.

ورغم كل هذه الحقائق الماثلة للعيان عن فشل الاستخبارات التركية، باختراق الكيان الموازي، أو معرفة أي معلومة هامة عن تحضيره لمحاولة انقلابية، خرجت وسائل الإعلام لتتغنى بمنظومة الاستخبارات التركية، وقائدها فيدان الذي وصفته بسلطان الظل، وراحت تنسج الأساطير عن إنجازاته في إفشال المحاولة الانقلابية، التي اعترف أردوغان نفسه أن الاستخبارات التركية لم تعلم عنها شيئاً. بل إن أردوغان نفسه، حسب ما أعرف من بعض المطلعين، كان يوجه انتقادات حادة لفيدان خلال اجتماعاته، لدرجة أن العلاقة بين الرجلين توترت ووصلت إلى حد القطيعة بعد المحاولة الانقلابية، وأكثر من ذلك، فقد أخبر أردوغان أحد الأشخاص، أن الاستخبارات التركية كانت بشكل أسبوعي ترسل إنذارات للجيش عن وجود محاولة انقلابية، لدرجة أن الجيش والأمن التركي أصبح يشعر بالملل من أخذ الاحتياطات اللازمة.

لكن كل هذه الحقائق التي يعرفها القاصي والداني، في تركيا والعالم، لم تمنع بعض وسائل الإعلام من تبرير فشل الاستخبارات التركية، باكتشاف المحاولة الانقلابية، وتحويلها إلى انتصار، عبر الزعم أن الاستخبارات التركية عرفت عن المحاولة قبل ساعات وأجبرت المنفذين على تقديمها. بل إن هذه الوسائل وصلت إلى حد أبعد من ذلك، وجعلت الرجل الذي فشل في كشف حركة انقلابية يشارك فيه المئات، أحد أعظم رجال الاستخبارات في العالم، متجاهلة أن تركيا في عهده تعرضت لمحاولتي انقلاب، وأصبحت ساحة للعمليات الإرهابية. فخلال عهد فيدان، تعرض مطار أتاتورك لهجوم إرهابي راح ضحيته 43 شخصاً فيما جرح المئات، كما تعرض أحد ملاهي اسطنبول الليلية إلى هجوم هو الآخر، وقع ضحيته 39 شخصاً، إضافة إلى عدد لا بأس به من عمليات الاغتيال والخطف التي كانت تتم في تركيا، وكان أبرزها اغتيال السفير الروسي في تركيا أمام وسائل الإعلام، وخطف قائد الجيش الحر، المقدم حسين هرموش من داخل تركيا، وتسليمه للنظام السوري.

بالطبع لا يمكن إنكار حجم التهديدات الأمنية المحيطة بتركيا، وحجم المشاكل التي تمر بها البلاد داخلياً وخارجياً، لكن بذات الوقت لا يمكن إنكار وجود خلل في المنظومة الأمنية لتركيا، في ظل هذا الكم الهائل من الاختراقات الداخلية والخارجية. ولا يمكن أن نتجاهل أن هذه المحاولات والاختراقات حصلت في وقت كان الكثير يعتقد أن تركيا تجاوزت هيمنة الجيش، وبعد عقد كامل لما يفترض أنه بناء للدولة التركية، وتخليصها من تدخلات الجيش المستمرة. كما أن ما حصل في تركيا خلال الأعوام الماضية لا يمكن اعتباره إنجاز للاستخبارات التركية، فلولا التدخل المستمر لقوى الأمن المسلحة التابعة لأردوغان واعتقال الألاف من ضباط الجيش والأمن، لكانت تركيا الآن ترزح تحت حكم جديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.