شعار قسم مدونات

نهر النيل بين ثورة يناير والأنظمة "الغبية"

blogs نهر النيل

بعد أسابيع من نجاح الشعب المصري في الإطاحة بالمخلوع حسني مبارك، توجه وفد شعبي إلى أديس أبابا للتفاوض مع المسؤولين الإثيوبيين حول سد النهضة الذي يُهدد الأمن المائي لمصر، واستطاع هذا الوفد تحقيق ما عجزت عنه الأنظمة السابقة واللاحقة لثورة يناير، تلك الأنظمة التي على اختلاف أشكالها اشتركت في شيئين اثنين الغرور الشديد في الاستئثار بالحكم على نهج "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ"، والفشل.

 

فمع إعلان النظام الحالي فشله في مفاوضات سد النهضة خرج المخلوع مبارك يتباهى بأنه استطاع تعطيل السد خلال 30 عاما، والتهديد بتدميره بضربة جوية من طائرة التوبوليف حال إقدامهم على بنائه، كما أنه تمكن من وقف اتفاقية "عنتيبي" التي تُنهي حصص مصر والسودان التاريخية في مياه نهر النيل عبر التحدث مع دول حوض النيل.

 

ولكن ما لم يقله المخلوع قاله رئيس ديوانه زكريا عزمي الذي اعترف خلال التحقيقات معه عقب ثورة يناير أنه كان يتسلم ملايين الدولارات من فاروق العقدة، محافظ البنك المركزي، ويسلمها لقادة وزعماء أفارقة بأمر مباشر من مبارك نفسه فيما عُرف بقضية "رشوة زعماء أفريقيين في ملف حوض النيل"، كما لم يقل مبارك أيضاً إن فساده هذا وغطرسته فاقمت الوضع وجعلتنا في عداء دائم مع شعوب حوض النيل، ولو أنه كان يملك ذرة من العقل والحكمة أو استشار أحدا غير حاملي المباخر لتمكن من الوصول إلى حل وسط يحفظ حصة مصر من مياه النيل، وفي نفس الوقت يعمل على تنمية تلك الدول، وما كنا وصلنا لما نحن فيه.

 

جاء السيسي ليُغرقنا أكثر، ليُخاطر ويتصرف في مستقبل أجيال بأكملها بوجهة نظره وحده وبصحبة شركائه وحلفائه الذين لم ولن يبتغوا لنا خيراً، فقام بالتوقيع على اتفاق مبادئ السد
جاء السيسي ليُغرقنا أكثر، ليُخاطر ويتصرف في مستقبل أجيال بأكملها بوجهة نظره وحده وبصحبة شركائه وحلفائه الذين لم ولن يبتغوا لنا خيراً، فقام بالتوقيع على اتفاق مبادئ السد
 

ولما جاءت ثورة يناير ووجد الإثيوبيون فيها فرصة للبدء في إنشاء السد لانشغال مصر بأوضاعها الداخلية الملتهبة، ذهب الوفد الشعبي وقام بالتفاوض مع القيادات هناك حتى وصل معها إلى اتفاق ووعود من رئيس وزرائهم كان ملخصها:

* عدم إقدام إثيوبيا على اتخاذ أي إجراءات تجاه تنفيذ مشروع السد قبل وجود رئيس منتخب وأن تلتزم الحكومة المصرية بتوفير مهندسين للمساعدة في بناء السد.
* عدم البدء في بناء السد إلا بعد صدور تقرير مشترك من المهندسين المصريين والإثيوبيين والتأكد من عدم تأثيره على حصة مصر من المياه.
* أن تتولى مصر عن طريق رجال أعمال مصريين شراء الأراضي المحيطة بالسد واستصلاحها من خلال عمالة مصرية.
* احتفالاً بذلك الاتفاق قام د.محمد أبو الغار أحد أعضاء الوفد بتوفير ١٠ منح دراسية لطلاب إثيوبيين في الجامعات المصرية.

 

إلا أنه تم تجاهل هذا الاتفاق الذي هو أفضل ما أنجزته مصر في هذا الملف منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وبعد أن جاء الرئيس المنتخب محمد مرسي ورصد الإثيوبيين طريقة تعاطيه مع الشأن السياسي الداخلي ترسخت لديهم قناعة بأنه سيكون الطرف الأضعف في هذا الملف، وبالفعل عندما ذهب مرسي للتفاوض حول القضية، كان الرد هو البدء في أعمال البناء وتحويل مجرى النيل الأزرق فور عودته من أديس أبابا، وأتت من بعد ذلك فضيحة الاجتماع السري المذاع على الهواء مباشرة والذي فضحنا أمام العالم واستعدى الجانب الإثيوبي أكثر وأكثر بعد التلويح بشن مؤامرات عليهم والتدخل في شؤونهم الداخلية بدعم إحدى الجبهات المسلحة وغيرها من الفضائح التي استمع إليها العالم.

 

تواردت أنباء عن وصول معدات عسكرية مصرية إلى قاعدة ساوا الإريترية، وسحب السودان سفيرها من مصر وحشد قواتها بالقرب من تلك القاعدة وأصبحنا على شفا حرب لا نعلم إلى أين ستصل بنا؟

وذهب مرسي وجاء السيسي ليُغرقنا أكثر وأكثر، ليُخاطر ويتصرف في مستقبل أجيال بأكملها بوجهة نظره وحده وبصحبة شركاءه وحلفاءه الذين لم ولن يبتغوا لنا خيراً، فقام بالتوقيع على اتفاق مبادئ السد وخرج يخطب فينا خطاب المنتصرين ليبيع لنا الوهم هو وذيوله الإعلامية التي هللت لنكسته تلك بعنوان "السيسي حلها"، ليتضح بعد ذلك أن توقّعيه على هذا الاتفاق أدى إلى تقنين أوضاع سد النهضة، وحوّله من سد غير مشروع دولياً إلى مشروع قانونياً، كما ساهم في تقوية الموقف الإثيوبي في المفاوضات، وأضعف الاتفاقيات التاريخية، وفق كلام الدكتور أحمد المفتي، العضو المستقيل من اللجنة الدولية للسد وخبير القانون الدولي والمستشار القانوني السابق لوزير الري، كما أوضح وزير الري السابق د. محمد نصر علّام أن هذا الاتفاق نص على تنازل مصر عن وجود خبراء دوليين في اللجنة المكلفة بدراسة السد، وتنازل عن إسناد دراسات السلامة الإنشائية للسد، وعن النص على الحصة المائية، وعن النص على التفاوض على سعة السد، مقابل صور تذكارية.

 

وربما كان سبب إقدام السيسي على هذه الخطيئة نصيحة من حلفائه الصهاينة الذين أكلوه "الأونطة"، والذي يتضح في خطاب الرئيس الصهيوني الهالك شيمون بيريز في مؤتمر هرتسيليا في سبتمبر 2014 -قبل شهور من توقيع السيسي- والذي قال خلاله إنه قال له "لا تدخلوا حروباً مع إثيوبيا واتركوهم يبنوا السد ونحن سنساعدكم في مضاعفة كمية المياه ونجعل النيل 3 أنهار ونستخرج من قطرة الماء 4 قطرات، وهو الفخ الذي من الواضح أن السيسي قد أوقع مصر فيه.

 

واليوم وبعد أن أعلن وزير السيسي فشل المفاوضات ووصولها لطريق مسدود، ونشر وكالات الأنباء العالمية تقارير عن انخفاض منسوب النهر في مصر وكوارث ذلك على الزراعة والحياة والسد العالي، تواردت أنباء عن وصول معدات عسكرية مصرية إلى قاعدة ساوا الإريترية، القريبة من الحدود السودانية والإثيوبية وسحب السودان سفيرها من مصر وحشد قواتها بالقرب من تلك القاعدة، وأصبحنا على شفا حرب لا نعلم إلى أين ستصل بنا، وهل ستصمت الدول الأخرى وخاصة المشاركة في السد عن أي عمل عسكري ضدها إذا كانت تلك الترتيبات بهدف شن ضربة عسكرية؟ وإن لم يكن -وهو ما أتمناه-فماذا سيفعل السيسي لحل تلك الكارثة التي أوحلنا فيها غير إلقاء اللوم على المزارعين والإعلان عن مشاريع وهمية لتعويض نقص المياه؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.