شعار قسم مدونات

سؤال العمر الملح

Blogs- man set
لا أحد يُنكِر الموت لأَنه حقيقةُ واقعة لا محالة رآها ويرَاها كل حيّ مُدرِك على سطح الأرض، فهي حقيقة ثابتة بِحَقِّ كل المخلوقات! ولعَل الاختلاف الوحيد بين كل الآدميين حول الموت يَكمُن فيما يَتلُوه ويعقبُه، غير أننا كمسلمين نُقِرُّ بأننا كبشر سَنمُر حتما بعوالِم ثلاثة: الدنيا، البَرْزَخ، الدار الآخِرة.
 
يخشى غالبُ النَّاس الموت إما جهلاً به أو إيماناً بما يتبعُه! وليس في ذلك عجب، وإمّا من لا يخشونه بل ينتظرونه.. بل وأشدُّ منها من يسعون إليه! فأما الصنف الأول بشِقّيْه فهم كثير لا حَصْر لهم فمُتَمسِّك بدنيا لا يريد فِراقها ومُتعثرٌ على الطريق يخشى ألّا تُنجِيه أعماله لكنه طامعٌ في الرّحمة، وأما أصحابنا من الصنف الثاني أو إن شئت قلت من نؤَمِّل أن نكون في صحبتهم قبل الرحيل وعند المستقَر فعالم آخر ونفوسٌ أخرى غير ما نظُن. يُمسِكون الدنيا بيدين ثابتين ونفسٍ مقبلة عليها ومَدّ بصرٍ الى السمُو الأعلى وروحٍ لا ترضَى بغير نعيمِ العالمِ الآخر بديلا وفي هؤلاء يجوز العجب بل يتحقق! وليس هذا نُكرَاناً للحياة أو هروبا من ضَنْكٍ عايشُوه فيها وإنما هو توق لِلُقياهُ سبحانه، إنهم يتقِنون فنّ المعادلةِ الصعبة.
 
إننا لسنا في موقفِ تِبيانٍ لعظمةِ الموت أو ملابساته وصورِه ولا ترهيب منه أو تقريب إليه، فهذا كله مسرودٌ بغزارة في النصوص الأثيرة والوقائع الماضية والحاضرة، ولا حتى قربه من كل إنسان أو فَجْأتِه، فكل ذلك صار من المعلوم نظراً وحالاً، وإنما نحن هنا نستَبصِر ما وراء هذه السُّنةِ الإلهية من حِكَم ونستَثمِرُ ما يُوصِلنا إليه اجتهادُنا من عِبَرْ قبل انقضاء الأجَل.
 
تَطرُقُ أذهانَ كثير من الناس تساؤلات حول ما سماه بعضهم "الأسئلة الوجودية": لماذا أنا على على هذه الأرض؟ ما هو دوري في الإعْمَار؟ وما نَهجِي في التعبد؟ كيف يخلقني الله بصفات متعددة عظيمة ويقدر بنقصانِ أخرى؟ متى سأعرف ثغرتِي الذي لأجله وجدت؟ ما أهدافي وما طموحاتي التي تُشبِعُني وتَتَكافئ مع ملَكاتي وإمكاناتي، بل والتي ترتقي بها وترفعها؟ لم أُخلَق عبثاً ولم أترك هملاً ولستُ رقما مضافاً فقط على كاهِلِ البشرية الضخم! صراعاتي الداخلية والخارجية؟ من أنا؟ وماذا أريد؟ وكيف؟ ومع من؟ ومتى؟ كلها أسئلة مُلحّة تدور ويدور غيرها في فلَك الحياة، يستطيع البعض الإجابة عن بعضها أو حتى جُلّها ويبقى البعض من التائهين ربما الملايين.
 
هؤلاء الذين يدّعون المكابرة في لحظاتهم الأخيرة لو تُركَت لهم فرصة الاختلاء بأنفسهم تلك اللحظة لمَا جاء على لسانهم إلا ماذا قدمت لحياتي؟ 
هؤلاء الذين يدّعون المكابرة في لحظاتهم الأخيرة لو تُركَت لهم فرصة الاختلاء بأنفسهم تلك اللحظة لمَا جاء على لسانهم إلا ماذا قدمت لحياتي؟ 
 

ثم إني ما زلت أبحث وأتأمل عن أسرع طريق لأتمكن من الإجابة بطريقة كافية وشافية عن هذه الأسئلة ومثيلاتها، فالحياة قصيرة لا تَحتَمِل كل هذه الرحلة رغم أنها تستحق! تستحق لأننا فيها وقد خلقت لنا، لأن الجنَّة تستحق، تستحق لأجل الفردوس والرضوان ورؤية الملك العلام.

 
وأحسِبُ أني وجدت طريقا بَدَا لي قِصَرُه وشيءٌ من يُسْرِه، تعرف معه الجواب ويبقى عليك العمل، ففي لحظات الموت يتصَاغَر كل الخلق مهما بلغت عظمتهم أو مكانتهم. وفي الغالِب أيضا أرقى درجات الصدق مع الذات تكون حِينَئِذ. حتى هؤلاء الذين يدّعون المكابرة في لحظاتهم الأخيرة لو تُركَت لهم فرصة الاختِلاء بأنفسهم تلك اللحظة لمَا جاء على لسانهم إلا "يا ليتني قدمت لحياتي"، ولكان الاعتراف بما مضى سيد الموقف.

إن ذاك الطريق الذي أَعنِي هو سؤال أيضاً.. اسأل نفسَك واسألي نفسكِ في جلسة صدق: ماذا أتمنى أن أفعل أو أحقق قبل موتي؟! ولا يتعجل أحدكم الإجابة، فهذا سؤال العمر، ومن الأولى ألا يُسأل إلا لمرة واحدة، فتَحَلَّ بالصبر قليلاً ترتاح كثيرا، واعلم أن الجواب يأتيكَ من المُضْغةِ في صدرك ولا غير فَآمِنْ بها وامنُنْ على نفسك بالبذلِ في سبيلِ جوابِ قلبِك إرضاءً منك إليه سبحانه وإرضاءً منك إليك، وتذكّر، فكل بذلٍ بعد الجوابِ سعادةٌ لا تُعوّض وكل تعبٍ فيه هناءٌ لا يُفُوّت.. والسَّلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.