شعار قسم مدونات

فلنقرأ التاريخ إذاً

Blogs- history
بداية أود تصحيح مفهوم خاطئ ترسخ في ذهننا جميعاً عن التاريخ، هذا الأخير يا صديقي القارئ ليس علماً للماضي، بل هو علم للحاضر والمُستقبل. الحديث عن التاريخ هو استحضار لأخبار الأمم والحضارات والوقائع التي مروا بها على امتداد الزمن مُنذ أن أنشأ الإنسان أول حضارة على وجه الأرض، لكن هذا الاستحضار ليس هدفاً لذاته، بل لما فيه من منفعة وما يؤديه من مهمة تربوية وتأطيرية في حياة الأفراد والمجتمع. في القرآن تحدث ربنا كثيراً عن قصص الأمم السابقة، فكان ذلك مقروناً دائماً بالعبرة والتفكر والنظر إلى عاقبة الأمور.
 
حديثنا هذا عن التاريخ وأهميته سيأخذنا للحديث عن "فلسفة التاريخ" باعتبارها إحدى أقسام الفلسفة التي كان اهتمامها هو دراسة التاريخ من زاوية فلسفية، والتي تُفسَّر علمياً على أنها دراسة للأسس النظرية للممارسات والتطبيقات والتغيرات الاجتماعية التي حدثت على مدى التاريخ.
 
انشطرت آراء الفلاسفة حول معنى التاريخ إلى تفسيرين اثنين، التفسير الأول؛ هو نظرية القديس أوغسطينوس التي اعتبر من خلالها أن التاريخ الإنساني عبارة عن خطة من الرب اتجاه خلاص الإنسان، وقد بدأت هذه الخطة يوم خلق الرب العالمَ إلى أن يأتي يوم الحساب، وهذه النظرية هي السائدة بين المفكرين في العصور الوسطى. أما التفسير الثاني؛ الذي تزعمه الفيلسوف الفرنسي فولتير، فاعتبر أن موضوع التاريخ هو الإنسان، وسادت هذه النظرية في عصر النهضة؛ أي القرن السادس عشر.

هذا الخلاف الفلسفي إذا ربطناه بالشريعة الإسلامية، فلابد أن نُرجح النظرية الأولى؛ لأنها تقريباً تتطابق مع ما جاء به الإسلام من أن الله هو الخالق والمُدبر وهو المُقدم والمؤخر وما إلى ذلك من صفات دالة على تدبيره للشؤون الكونية. ومنه وبعد فهمنا جيداً للمقصود بلفظة التاريخ يُصبح حينها أمر دراسته ذا معنى وقيمة.
  

التاريخ هو العُنصر الوحيد الذي يُمكننا من خلاله استلهام أو استشراف المستقبل، لذلك وجب علينا نقله وتنقيحه لحفظه من مُحاولات التحريف والتزوير
التاريخ هو العُنصر الوحيد الذي يُمكننا من خلاله استلهام أو استشراف المستقبل، لذلك وجب علينا نقله وتنقيحه لحفظه من مُحاولات التحريف والتزوير
 

إن أهم منطلق، وأشد دافع وراء دراسة التاريخ هو أن "التاريخ يعيد نفسه". ليست قولة تكررها الأجيال عبثاً، بل هي حقيقة يدل عليها التاريخ، فجل الوقائع فيه تكررت إن لم نقل كلها، ومن أسباب النهضة أن نحسن قراءة هذه الأحداث وأن نتعظ بها وننطلق منها في تجاربنا الفردية والجماعية أيضاً، وتأكيداً لهذه القولة نأخذ مثالاً حيا يوضحها جليّاً، في سنة 1812 قاد نابليون قواته الفرنسية إلى داخل روسيا، لم يكن مستعدا تمام الاستعداد لهذه الحرب ولا مخططاً لها جيداً، فانهزم جيشه أما الروس، وقد أشار إلى هذا أوليفربودين في كتابه "نابليون وحملة روسيا". وتكرر هذا الأمر مع هتلر سنة 1942 عندما دفع بأكثر من أربعة ملايين من قواته إلى روسيا وفي اعتقاده أن هذه الأخيرة هدف سهل، ولنفس أسباب انهزام قوات نابليون انهزم جيش هتلر.
 
التاريخ هو العُنصر الوحيد الذي يُمكننا من خلاله استلهام أو استشراف المستقبل، لذلك وجب علينا نقله وتنقيحه مما قد شابه من مُحاولات للتحريف والتزوير، ثم بعد ذلك نَدرسه ونُدرّسه بيقينِ أنه شَرطٌ أساس للنهضة. وذكرت التنقيح هنا لأنه كما ذكر ابن خلدون في مقدمته لا يَكفي أن نعتمد على النقل وحده، بل يَجب أن نُحكِّم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في المجتمع الإنساني، وأن نقيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب.
 
على مر العُصور، كان الخلفاء والأمراء وحكام المسلمين يدنون منهم المؤرخين ومن لهم علم بأخبار الأمم السابقة لأهمية التاريخ في تقدم المجتمع، ومن الأمثلة الشهيرة في هذا الباب أن مُعاوية رضي الله عنه استدعى عبيد بن شرية من صنعاء يسأله عن ملوك العرب والعجم، وكان يجلس إليه كُل مساء، كما يجلس الطلبة أمام شيخهم، ليسمع منه أخبار التاريخ، وعُبيد هذا كان واحداً من أقدم مؤرخي العرب. دراسة التاريخ بتتبع السُنن الحاكمة لهذا الكون نستفيد منها أشياء عدة، وقد يكون أهمها أن هذه السنن لا تُحابي أحداً، ولا تزيغ قيد أنملة عن مسارها من أجل أحد، مَن جد وجد ومن زرع حصد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.