شعار قسم مدونات

عن محاكمة الأعداء المهزومين

blogs محاكم نوربيرغ

بعد الحرب العالمية الثانية، كان العالم كله يكره القادة النازيين المهزومين كراهية لا حدود لها. قتل في الحرب ما بين 62 مليونا و78 مليون إنسان، بحسب التقديرات، مع خسائر اقتصادية غير مسبوقة. حتى الشعب الألماني الذي انتخب هتلر ذاق وبال النازية وأدرك، متأخرا، فداحة اختياره.

 

لذلك، حين بدأت الدول المنتصرة في الحرب محاكمة القادة النازيين على جرائمهم، في ما عرف بمحاكمات نورنبيرغ، كان سهلا جدا أن يحكموا بإعدامهم جميعا وبأبشع الطرق التي عرفها البشر. من الذي يمكن أن يعترض على ذلك؟ من الذي كان سيطالب بالمعاملة الإنسانية والمحاكمة العادلة باعتبارهما حقا ثابتا لأي متهم، أو بتطبيق العقوبة في ظروف آدمية؟ من كان سيعترض على التنكيل بهؤلاء القتلة الأوغاد؟ كان العالم أجمع يئنّ من جرائمهم، وكانت الدول المهمشة أضعف من رفع صوتها بأي اعتراض على إرادة الدول القوية المنتصرة في الحرب.

 

رغم ذلك إذا قرأنا قليلا عن سير المحاكمات سنكتشف، مذهولين، أن القضاة (كانوا من أمريكا وإنجلترا وفرنسا وروسيا) أصدروا بعض الأحكام وفقا لمعايير إنسانية وصحية لم يكونوا مضطرين أبدا إلى الحكم وفقا لها، على قادة النازية، وليس على مواطنين ألمان مدنيين؛ أي على مسؤولين مباشرين عن قتل ملايين البشر وتجويعهم وتعذيبهم تعذيبا بكيفية وحشية.

 

ورغم أن قادة دول التحالف ارتكبوا جرائم حرب تضاهي جرائم القادة النازيين، ورغم أن أحدا لم يحاكم على إلقاء قنبلتين ذريتين على المدنيين اليابانيين وعلى توجيه عمليات القصف إلى المدنيين الألمان، وهو ما تُجرّمه المواثيق الدولية أيضا… رغم ذلك كله، يشعر من يتابع محاكمات نورنبيرغ بالحيرة من إصرار القضاة على تطبيق بعض المبادئ على أعتى المجرمين الذين عرفهم التاريخ الحديث.

 

القائد النازي رودلف هس وبجواره أدولف هتلر  (مواقع التواصل)
القائد النازي رودلف هس وبجواره أدولف هتلر  (مواقع التواصل)

وُلد القائد النازي رودلف هس في مصر لأبوين ألمانيين وقضى فيها طفولته المشؤومة، ثم فر من تسلط والده إلى سويسرا للدراسة، ثم انخرط في الحرب العالمية الأولى وأصيب مرتين، دون أن يقلل ذلك من تعطشه لدماء البشر. انضمّ إلى الحزب النازي باكرا وصار من أقرب مساعدي هتلر، حتى أصبح سكرتيرَه الخاص، وبعد توليه الحكم اختاره نائبا له.

 

في مقاطع الفيديو الذي يظهر فيه هس، يبدو رجلا أحمقَ، تافها، منسحقا أمام هتلر. يكرر التحية النازية أمامه مرات متتالية، يهتف -بشيء من الهيستيريا- بأن هتلر هو ألمانيا وألمانيا هي هتلر.. وعلى النسق المختلّ ذاته، قرر هس منفردا أن يهبط بمظلة على إسكتلندا في1941، ليتفاوض مع الإنجليز على السلام حتى تتفرغ ألمانيا لقتال روسيا، فأسرَه الإنجليز بلا تردد.

 

بعد الحرب، حوكم ضمن محاكمات نورنبيرغ، وكانت المفاجأة أنه كان قادرا على إنكار التهم الموجهة له، اتساقا مع كونه مختلا، وهو ما كان ظاهرا من مغامرة إنجلترا، فكان يمكن تصديقه، لكنه اعترف بمسؤوليته عن إبادة اليهود في المحارق النازية قائلا: "أنا لست نادمًا.. وإن عاد بي الوقت كنت لأفعل ما فعلت حتى إن كنت أعلم أن هذه هي النهاية".

 

ألم يكن ممكنا أن يُعدَم هذا المجرم فورا؟ أو أن يمنع من الرعاية الصحية والزيارات والطعام الآدمي حتى يموت؟ حُكم عليه بالإعدام، لكن التشخيص بأنه غير متوازن نفسيًا أدى إلى تخفيف الحكم عليه إلى السجن مدى الحياة. ظل مسجونا حتى انتحر أخيرا في 1987 وهو في الثالثة والتسعين من عمره.

 

من عجائب هس أن قبره صار مزارا للنازيين الجدد من الألمان، الذين صاروا يحيون ذكراه ويستلهمون منه أسمى معاني الانحطاط والعنصرية، حتى اضطرت السلطات الألمانية في 2011 إلى إزالة الشاهد من على قبره ونقل رفاته وحرقه وإلقائها في البحر، بعد الاتفاق مع أسرته. غالبا ما يذهب السفاحون إلى مزابل التاريخ مُشيَّعين باللعنات، لكن رجلا تافها بكل معنى الكلمة مثل هس لم يفعل في حياته شيئا غير كونه خادما ذليلا للسفاح الأكبر ويقر بجرائمه مفتخرا، ينتهي أمره إلى أن يصبح ملهما لانحطاط البشر.

 

إيريش رايدر قائد البحرية الألمانية حتى عام 1943  (مواقع التواصل)
إيريش رايدر قائد البحرية الألمانية حتى عام 1943  (مواقع التواصل)

حكم عللى إيريش رايدر، قائد البحرية الألمانية حتى 1943، الذي شارك في الحربين العالميتين، وكان مسؤولا عن جرائم البحرية الألمانية في الحرب العالمية الثانية حتى خروجه من الجيش، بالمؤبد، ثم أفرج عنه لأسباب صحية في 1955، ولم يكن موشكا على الموت وقتها، فقد عاش حتى 1960.

 

رغم أن أسباب الكراهية كلها قائمة واستحقاقات التنكيل بالقادة النازيين أكثر من أن تُحصى، ورغم أن قادة الدول المنتصرة اقترفوا جرائم حرب أخرى، فإن "القضاة" كانوا قضاة في آخر الأمر؛ لم يروا أنفسهم ذيولا لأنظمة سياسية ولم يتركوا لمشاعرهم ولا مصالحهم فرصة للتدخل. الأرجح أن الحكومات التي اختارتهم كانت تعلم أنهم سيحكمون على هذا النحو. لم يخرج مسؤولون ليذكروا القضاة والجماهير بضحايا القادة النازيين، فقد كانت الدماء تغطي الشوارع والمباني… لكن الأنظمة الغربية كانت مدركة وقتذاك أن استقلال القضاء وعدالته شرط أساسي لتقدم الدول.

 

أفكر في هذه المحاكمات بينما أقرأ عن أحكام الإعدام التي يمنحها القضاء المصري بالجملة، مثل الحكم بإعدام المئات دون سماع مرافعة دفاعهم، ومثل تنفيذ الإعدام في 19 متهما خلال أسبوع واحد، منهم 18 من معارضي النظام المصري، مع وجود تفاصيل تثير الذهول والأسى في سير محاكماتهم، كأن يطلب دفاع المتهمين في قضية "استاد كفر الشيخ" تفريغ الكاميرات المحيطة بموقع الجريمة فلا يتم تفريغها، أو أن يعترف متهم منهم بالتفجير باستخدام "ريموت" دراجة نارية، ثم يؤكد تقرير الخبراء الرسميين أن التفجير تم بـ"ريموت" هاتف محمول.. فكيف نصدّق أن يعترف متهم على نفسه بتهمة لم يرتكبها ما لم يتعرض لتعذيب مروع؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط:

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.