شعار قسم مدونات

يحيى عياش

مدونات - يحيى عياش

ولأن فرح المرأة التي تسند رجلاً مقاوماً لا يحتمله بياض الورق ولا حبر الأقلام، كتبت هذه الكلمات على لسان هيام زوجة يحيى عياش..

أن تتزوجي مقاوماً يعني أن يكون الوطن على مقاس يده وبلون دمه وبحجم قلبه.. أن يأخذ بيدك إلى الله.. فتعرفين أن للسماء أبواباً لا تُغلق وأن للمقاومة لحناً لا بد أن يُسمع! الآن.. أنظر من بعيد فأرى تلك الفتاة التي لا تتجاوز الـ18 ربيعاً والتي قدَّر الله لها أن تتزوج مقاوماً.. تتعلم منه أن تسلك طريقاً وعرة دون أن تهاب.. وتكتب قصيدة تتدفق حروفها كما البلور شفافة.. تلك الفتاة التي أصغت إلى موسيقى إحساسها.. هذا الإحساس الذي لا يمكن أن يُكتب أو يُفسر.. فروعته في كثافته وغموضه!

 

قبله كنتُ أشعر بفوضى وتشويش داخل أعماقي، أعاد ترتيب أولوياتي، به ومعه أصبحت أفهم ذاتي.. صرت أكثر قدرة على التعبير عن نفسي، عرفت فلسفة الأحداث وما وراء الكلمات، صرت مثقلة بالوطن مثله تماماً، تخفق أجنحتي شوقاً لكل ذرة تراب أقف عليها، كان سلاحه يملك القدرة على جعلي أفرح وأحزن في آن واحد!

 

لا أزعم أن أول يوم لي في غزة كان أجمل أيامي، لكنْ كان فيه شيء مختلف.. فيه إشارات لم أفهمها.. كان شعوري مرتبكاً لا أستطيع أن أصفه.. استغرقتُ بضعة أيام للتعرف عليه

قطفتُ محبته وشفاعته، ولم أكن أعرف ما ينتظرني.. ولكنني عرفت شيئاً واحداً وهو أن الفتيات في الأرض، كل الأرض، يتزوجن ذكوراً أما أنا فقد تزوجت رجلاً بأجنحة، أجنحة لها القدرة على الحب المزدوج الذي يخفق في خطين متوازيين دون أن ترجح كفة على أخرى! كانت له أجنحة قادرة أن تبعث الوطن حياً، تجعله يتخطى مؤامرات السلام الوهمية التي جعلت الوطن على المقصلة!

 

كم كنت أطرب عندما يناديني بشجرة الصنوبر حيناً، وحيناً بعطر الياسمين! وعندما سألته لماذا تراوح بين شجرة الصنوبر وعطر الياسمين؟ قال لي: في المواقف الصعبة أراك كشجرة الصنوبر قوية وشامخة تقف في وجه أعتى الرياح وأراك كعطر الياسمين تتهادين أمامي شفافة رقيقة فيخفق قلبي شوقاً وحباً! شهدتُ معه قدر الله في الغياب والحضور، وعلمت ُ أن البلاد التي أفارقها ما فارقتني أبداً وأن الله يبدل الأهل بالأهل فتستأنس الروح وتجد السلوى.

 

لا أزعم أن أول يوم لي في غزة كان أجمل أيامي.. لكن كان فيه شيء مختلف.. فيه إشارات لم أفهمها.. كان شعوري مرتبكاً لا أستطيع أن أصفه.. استغرقتُ بضعة أيام للتعرف عليه.. لقد شعرت بأن الله يعوض الفاقدين الأرض والأحباب وكأنهم ما فقدوا وما فارقوا.. فيشق أنهاراً من الصبر ويزرع جنة في القلب..

 

أنيستي وأمي الثانية في غزة كانت الحاجة "أم هانئ"، التي نزلت ضيفة على بيتها في جباليا.. كانت الأم التي تأتي لي بالطعام والشراب كل يوم وعندما اعترضت وقلت لها لا بد أن أساعدكم.. لم تقبل وقالت لي أنت ِ ضيفتي إلى أن تعودي إلى الضفة.. أجلس بجانبهم على المائدة.. أنظر بدهشة! فالمائدة مزينة بالفلفل الأحمر والأخضر والأصفر.. قلت لهم ممازحة..

– هناك شئ نسيتم أن تضعوا عليه الفلفل!

حدقوا مستغربين وقالوا لي:

– ما هو؟

قلت لهم: 

-الشاي..

فضحكت الحاجة "أم هانئ" حتى أمسكت بخاصرتها.

 

أمشي تحت جناح الحاجة أم هانئ، أذهب إلى الطبيب بصحبتها، أفحص على اسم كنِّتها أم ربيع.. أرجع إلى الوراء قليلاً.. قبل العيد تأخذني إلى السوق أنا وطفلي الصغير براء، تشتري لي فستاناً اخترته بنفسي ولا أنسى لونه القرمزي ولا ملمسه الحريري.. واشترت لطفلي "شورت" وقميصا وكذلك ليحيى.. ولما عدنا إلى البيت سألني يحيى: من أين لك هذا؟ قلت له: الحاجة اشترتها لي.. سكت وأحسستُ بأن الأمر أزعجه.. وعلى حين غرة دخلت علينا الحاجة وكانت قد سمعته وعرفت من نبرة صوته أن الأمر قد أزعجه وكسر شيئاً في روحه، فقالت له: اسمع يا يحيى.. إنتو ولادي وكسوتكم عليّ ما دام إنتو في بيتي ..أنا مثل أمك يا ولد!

المهنددس
المهنددس "يحيى عياش" (الجزيرة)


سكت يحيى وعاد إلى الوراء ليرى ذلك المشهد الذي لن ينساه يوم قدم إلى بيت أم هانئ وكانت تعجن.. وقفت تنظر إليه ويداها ملأى بالعجين، ودون أن يقول لها أحد من هو الضيف القادم عرفته وقالت له:

 

أنت يحيى.. يا حبيب أمك.. ليش هيك ضعيفْ ونحيف؟ من اليوم وطالع إنت حصتي وابني اللي ما نزل من بطني لأنك غريب ديار (مش مثلكم) وأشارت إلى بقية المطارَدين الذين كانوا بصحبته!

 

سكت يحيى لأن حب أم هانئ نضج في قلبه على مهل.. فهو لم ينس أنها كانت تخبئ له كل شيء يحبه.. التوت والبسكويت بالحلقوم.. تتفقده صباح مساء وتأتي له بكأس الشاي التي يحبه من يدها.. تعرف ما يحب ويكره؛ وكثيراً ما سمع دعاءها الدافئ له في ظلمة الليل ولمس خوفها وارتعاشها عليه!

 

فسلام على غزة.. فلا صحبة تشبه صحبتهم ولا نشوة تشبه فرحي معهم..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من مذكرات هيام عياش

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.