شعار قسم مدونات

ما أحوجنا للعودة للطفولة

Blogs- man
شهران بالتمام والكمال هي التي تفصلني على بُلوغِيَ عاميَ الثالتِ والعشرين في مدَرَج عمري، وأنا أتعجب من نفسي كيف وصلتُ إلى هذا الحد الهائل من العمر بهذه السرعة الفائقة دون أي استشعار مني أو إدراك للأمر من قبل؟.. بدايةً، سألت نفسي: ثُرى، أين أضعتُ هذه السنين الماضية من العمر والأعوام!؟ وما الجديد الذي وصلت إليه حتى هذه الساعة؟ وأي إنجاز بلغت؟ وهل أنا في هذا العمر ما كنتُ أتمناه من قبل وأركض نحوه طلبا إياه؟ أم أني غير ذلك فعلا؟ 
 
لقد أصبحت عقارب عمري تتسارع بكيفية رهيبة ومفزعة فعلا هذه الأيام، ما زلت أذكُر أيام الصبا ومقدمات البلوغ يوم كنتُ طفلا يافعاً، إذ كنتُ أَتلهّفُ يومذاك على بلوغي عامي الخامس عشر فقط والذي كان يبعدُ عني وقتذاك بمِقدار قرن من الزمن.. وشِبهُ ذلك يحدثُ لي مع باقي الأعوام الأخرى القابعة وراء محطة العشرين من مسيرتي. كان العام يومذاك أضخمَ وأَشسع، وكانت الأيام طويلة مديدة محفورة في ذاكرتي إلى اليوم، لا تُنسى أحداثها البتة ولا تُطمَر. لكن اليوم والآن شيء آخر غير ذلك، ها أنا الآن لم أعد قادرا قط على استيعاب ماضي يومي الفائت، تتداخل أيامي في ما بينها وتتشابه تماما.
 
في ما مضى لم أكن أرقب الساعة قط، ولم أكن أعيرها أي اهتمام أو انتباه مطلقا؛ لكن ها أنا اليوم أرقبها باستمرار وبفزع، لكنْ دون أن أُحِس بمجرياتها ووقائع أحداثها الخِصبة الهائلة. فعلا هذا شيء رَهيب وأمر قليل الإدراك ونادرا ما يَتِمُّ التوقف عنده مع الأسف. هل أخرس وأدع هذه القاطرة من عمري تسير دون أن أتأملها وأقف عندها؟ ماذا لو وجدت نفسي غدا ضمن نازلي محطة الثلاثين المشؤومين؟ بما سأجيب نفسي لو سألتني تَذَكُّر بعضا من أحداث الماضي والترفيه بها علي، هل أدعي يومذاك النسيان، كما فعلت الآن وأخرس دون أن أجيب؟
 
أظن أنه لا وجود لأمر رهيب في حياتي مثل هذا الأمر وهذه الغفلة الغائرة عليّ. صحيح أني جِئتُ وقائع كثيرة وخُضتُ في أشياء هائلة متنوعة، لكني فقدت بركة يومي مع الأسف ومُتعته اللطيفة. لم أعد أتلذد باللحظات وإن كثرت أحداث المسرة وتنوعت وتباينت مجرياتها. لا أذكر شيئا غير الملل القاتل المستوطن لحياتي. في أيام طفولتي كنت أرى السعادة المثلى في أحلام بسيطة بريئة، كنت أرى الفرحة في سفر. حققت أحلام صِغري الكبيرة وتجاوزتها إلى أبعد حد ممكن. تِهتُ في مدن عدة وسرحت في أبعد البقاع وتسكعت في ربوع أجمل من قبل. لكني لم أعثر على فرحتي مع الأسف ولم أجدها قطعا. تبسم مصطنع فقط، ومسرة سطحية لا غير هي التي تسود.
 

ها أنت اليوم تَكَدُّ وتَتعب في العد والحساب للأمور لكنك لا تَسعد قطعا ولا تستريح أو ترضى، فما أحوجنا للعودة إلى الطفولة وترك العقل للجحيم
ها أنت اليوم تَكَدُّ وتَتعب في العد والحساب للأمور لكنك لا تَسعد قطعا ولا تستريح أو ترضى، فما أحوجنا للعودة إلى الطفولة وترك العقل للجحيم
 

أتساءل ما هذا الطمع الذي يَغمُرني؟ وما هذه المشاعر الباردة التي تكتسحني وتثور داخلي ولا تيأس؟ أين ذاك الطفل الذي كان يَسكُنني ويركض فرحا في أزقتي وشوارع بدني؟ أين تلك البراءة والغريزة الطفولية فِيّ؟ هل هذا ما جناه عليّ العقل اليوم يا ثرى؟ ألا يعد هذا العقل هنا في هذا الأمر اليوم بمثابة غائر جبار يطغى ويعيت التشاؤم والفزع مقارنة بالبراءة في الطفولة اليافعة، يوم كنا صغارا؟ صحيح أنك كُنتَ حينها تأتي أشياء كثيرة دون أن تحسب لها أو تقيم لها وزنا وتعيرها قيمة، لكنك تَسعد في الآخير وتمرح وتنتشي.

 
ها أنت اليوم تَكَدُّ وتَتعب في عد وحساب الأمور لكنك لا تَسعد قطعا ولا تستريح أو ترضى، فما أحوجنا للعودة إلى الطفولة وترك العقل للجحيم، ترك العقل الطاغي الجبار الذي بخّس قدَر الطفل داخلنا وأعتمه، وإني أعرف مجتمعات قضت عليه بالمرة وقتلته ثم نسفته. حتى مع أطفالنا نعجز عن ارتداء ذاك الطفل وسطهم والمرح معهم به وإضفاء بعض المهجة الحلال والسرور على قلوبهم. ألم أقل إننا في حاجة ملحة للعودة إلى اطفولة وقتل العقل، ليس أي عقل إنما العقل المعروف وسط هذه الأمة الجاهلة الأمية، أما العقل الأصيل فما هو بذلك، بل إنه جوهر ومفخرة.
 
لقد جنيت على نفسي حين سمعت من مجتمعي عن هذا العقل البشع وجعلته حُلّتي، لقد فقد رونق طفولتي وبت لا أستشعر مراحل عمري وسنيني.. همّ ونكد لا ينتهي وفرحة في اللهو لا توجد ولا تظهر. تشابهت أيامي وتشابكت بالهمّ، لا شيء غير ذاك، لا ذكريات تُحكى ولا مسرات تعاش.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.