شعار قسم مدونات

غارسيا ماركيز مؤلِّفا سينمائيّا

Blogs- غارسيا
يكفينا أن نشاهد فيلم "الحُبّ في زمن الكوليرا" للمخرج مايكل نيويل، أو أن نرى غارسيا ماركيز رئيسا للجنة التحكيم بمهرجان كانْ السينمائي، لنعرف أن لهذا الألمعيّ علاقة قديمة بالسّينما. صحيح أننا لم نعرف غارسيا ماركيز إلّا أديبا، بروائعه: مائة عام من العزلة، الحب في زمن الكوليرا، قصة موت معلن، خريف البطريرك.. وغيرها، لكن قلّة منّا مَن تعرف أن لماركيز ماضيا سينمائيّا مُحترما، ويمكننا أن نستجلِي علاقته بالسّينما عبر ثلاثة مستويات:
 

استلهام قصص بورخيص في أفلام كثيرة
مجموعة من الأفلام، تتجاوز الثلاثة عشر فيلما، كان مصدرها كتابات غابرييل غارسيا ماركيز. قَصصٌ وروايات استوحى منها سينمائيون سيناريوهاتٍ رائعة لأفلامهم. فكتابات ماركيز الفريدة، المُغرِقة في الواقعية السّحريّة لم تلهم الكتّاب والأدباء فقط، بل ألهمت مخرجين سينمائيين وكتابَ سيناريو، الذين وجدوا في نصوص هذا الأديب مادّة خصبة زاخرة بالفانتاستيك، بالخيال الجامح والأحداث المثيرة.
 
من هؤلاء، نذكر الإيطالي فرانشيسكو روزي تُولِي الذي استوحى فيلما من وقائع "قصة موت معلن". والتي تحكي عن مقتل سنتياغو من طرف التّوأمين فيكاريو انتقاما لشرف أختهما التي أفقدَها الأخيرُعذريتَها.. سرَدَها ماركيز بحَكْي حلزونيّ فريد جعله يحيط بملابسات الحدث/القتل بكفاءة عالية. استطاع فرانشيسكو روزي أن يحول القصّة إلى فيلم مشوّق. ورغم حرصه على عدم الزيادة أو الحذف فإنه ضيّع الجوهر وروح النصّ. 
 
قصة أخرى لماركيز وهي "رجل عجوز بجناحين عظيمين"، تحكي عن مَلَاك عجوز غريب ضعيف سيجده زوجان في فناء بيتهما. الملاك سيُحلّق أخيرا أمام أعين ماسيلدا التي تخلّصت أخيرا من فوضاه.. حوّلها الأرجنتينيّ فيرناندو بيرّي إلى فيلم بنفس العنوان، وتم عرضه سنة1988. السينمائي أرتورو روبنشتين أخرج فيلم "ليْسَ للكولونيل من يُكَاتِبُه" سنة 1998. اقتبسه من الرواية القصيرة التي تحمل العنوان نفسه. كانت قد صدرت لماركيز سنة 1967. يحكي فيها عن كولونيل متقاعد شهِد حرب الألْف يوم، رجل في قمّة الضعف والجوع والكبر في السنّ لكن لا يزال متمسكا بشيء في هذه الحياة ألا وهو ذكرى ابنه وآمالَ أصدقاء هذا الابن.
   
النموذج الأبرز لاستلهام نصوص ماركيز في السينما العالمية هو فيلم
النموذج الأبرز لاستلهام نصوص ماركيز في السينما العالمية هو فيلم "الحبّ في زمن الكوليرا" (مواقع التواصل)
   
فيلم "عن الحب وشياطين أخرى" الذي أخرجته الكوستاريكيّة هيلدا هيدالجو، وشارك في مسابقة الأوسكار فاختِيرَ كأفضل فيلم أجنبي غير ناطق بالإنجليزية. تدور أحداث الفيلم في مدينة كارتاخينا دي إندياس في القرن الثامن عشر، وهو أفضل اقتباس لروايات غارسيا ماركيز كما وصفه النّقاد، تحكي الرواية هذه، كما كتبها غارسيا ماركيز (سنة 1994)، عن إصابة سييرفا ماريا بداء غريب تَمّ تفسيره بأنّه مَسّ شيطانيّ، فتمّ إلحاقها بدير كنيسة، ستلتقي هناك بالأبِ كايتانو ديلاورا، وبدل أن يعالجها بالماء المقدّس سيقع في حبّها.
 
النموذج الأبرز لاستلهام نصوص ماركيز في السينما العالمية هو فيلم "الحبّ في زمن الكوليرا"، المأخوذ عن روايته الشهيرة الصادرة عام 1985. والفيلم تمّ عرضه سنة 2007. يمتد زمن الأحداث فيه من سنة 1880 إلى سنة 1930، وذلك في مدينة كارايبيّة على ضفة نهر ماجدالين في كلومبيا إبّان زمن الكوليرا. من إنتاج هوليود، إخراج البريطاني مايكل نيويل، مخرج هاري بوتر وكأس النّار.. بطولة الإسباني خافيير بارديم. الفيلم كان ناقصا لأن سيناريو الفيلم اعتمد على الترجمة الأنجليزية، عِلما أن ماركيز كتب الرواية بالإسبّانيّة، ويحكي قصة حبّ رجل وامرأة منذ مراهقتهما حتى بلوغهما مابعد السبعين.
 
وهناك نماذج أخرى لا مجال للوقوف عندها هنا، ذكرَها عصام زكريّا في كتابه "غارسيا ماركيز والسينما". فقد أورد الناقد المصريّ في هذا الكتاب أكثر من ثلاثةَ عشرَ فيلما من الأفلام المقتبسة من قصص ماركيز. من هنا نتساءل: لماذا هذا الإقبال على أعمال ماركيز من طرف السينمائيين؟ ما الذي وجده المخرجون في نصوص "غابو" (لقب باركيز)؟ السّر في ذلك، كما أبرزه الكثير من النّقاد، يتمثل في كون اللغة التي يكتب بها غارسيا ماركيز لغة بصرية، فاللغة الواصفة التي تنتج الخيال عنده أقربُ إلى المشاهدة والرؤية الحسية منها إلى الرؤية المجردة، الأمر الذي جعل نصوص هذا الكاتب مؤهلة بشكل تلقائيّ لتتحوّل وتصير أفلاما.
 

تمّ اختيار
تمّ اختيار "غارسيا" رئيسا للجنة تحكيم مهرجان كانْ السينمائي سنة 1982، وهي السنة ذاتها التي حاز فيها على جائزة نوبل للآداب
 

ماركيز سيناريست سينمائي

لعلّ ميول ماركيز المبكر إلى السينما، من جهة، وإقبال السينمائيين على نصوصه، من جهة ثانية، جعلته يثق في قدراته التخييلية البصرية ومعارفه السينمائية، فانبَرى لكتابة السيناريو وبرع فيه، رغم أنّ هناك من يقولون إنه كان سينمائيّا فاشلا مقارنة مع نجاحه الأدبيّ الكاسح. إنّ غارسيا كتب العديد من السيناريوهات؛ أوّلها كان مع الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتيس، حيث اشتغلا على رواية خوان رولفو، تلَتْها سيناريوهات أخرى أهمّها سيناريو فيلم "وقت للموت" للمخرج أرتورو روبينشتين. وسيناريو فيلم "إرِنديرا  Tiempo de morir) "Eréndira) للمخرج روي كيرا، يحكي فيه ماركيز عن البريئة إرِينديرا التي ستشغّلها جدّتها الشريرة عاهرة لتجني مالا.. وغيرها من السيناريوهات. 
 
ماركيز ناقدا سينمائيّا
إنّ إلمام ماركيز بالسينما وخوضه تجربة السيناريو، واحتكاكه بصنّاع السينما، إلى جانب المعرفة الأدبية الغزيرة التي راكمها في مجال تخصصه، كلّها أمور قد ساهمت في تعميق الثقافة السنمائية عند ماركيز، وبالتالي أهلته إلى أن يكون ناقدا سينمائيّا، فقد وضع كتابا عن المخرج الشّيلي (من أصل فلسطيني) ميغيل ليتين بعنوان: "مهمّة سرّية في تشيلي". وشغل منصب المدير التّنفيذي لمعهد السينما في هافانا، وكان رئيس مؤسسة أمريكا اللاتينية للأفلام، كما تمّ اختياره رئيسا للجنة تحكيم مهرجان كانْ السينمائي سنة 1982، وهي السنة ذاتها التي حاز فيها على جائزة نوبل للآداب. 
 

إن هذا الكاتب الكلومبي، أديب متعدّد، عرف كيف يسير على خيط رفيع لا يكاد يفصل بين السينما والأدب، إنّه أخذ من السّينما جانبها الأدبي، وغذّاه بنصوصه المؤسّسَة على لغة واصفة بصرية، فبصَم بذلك لمساتٍ مائزة ظلّت راسخة في ذاكرة المشهد السينمائي العالمي، وخلّدت اسمه أديبا كبيرا، وسينمائيا أيضا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.