شعار قسم مدونات

ديكتاتور راشد خير من ديمقراطية ليست على مقاسنا!

blogs - lion
المستبد العادل (benevolent autocrat)
عرف جان جاك روسو الديمقراطية على أنها "إرادة الأغلبية" التي هي صاحبة السيادة والحكم النهائي فيما يتصل بالصواب سياسيا، فجمهور الأمة هو من يقوم بتحديد الإطار المرجعي للمجتمع، وقد أشار صامويل هانتنغتون إلى أن الاتجاه السائد عند فلاسفة الغرب منذ الحرب العالمية الثانية هو اعتبار أن الديمقراطية تمثل "نظاما سياسيا ينطوي على مؤسسات تؤمّن اختيار الناخبين للسلطة ومشاركتهم في القرار".
  
إن الناظر إلى العالم اليوم يرى كيف أن الدول الآن تعيش نفس المرحلة التي عاش فيها الأفراد قبل ظهور الحكومات المحلية، فكل دولة تريد أخذ حقها بحد السيف. هذا الوضع الفوضوي، وحالة الطغيان السائدة في كثير من الدول يظن البعض أنها موروث الديمقراطية الزائفة التي صنعتها بعض الدول العظمى كوسيلة لبسط السيطرة وتعزيز النفوذ، فقد ظن الطاويون أنها مشكلة لا تحل فنصحوا بالفوضوية، وجرب العالم الحكم العسكري المطلق والثيوقراطي والملكية الوراثية وحكم القلة والنظام الديمقراطي وحكم القديسين، ويدل كل هذا على أن مشكلتنا لم تحل بعد.
 

إنما ينهض بالشرق مستبد عادل، مستبد يكره المتناكرين على التعارف، ويُلجئ الأهل إلى التراحم، ويقهر الجيران على التناصف، يحمل الناس على رأيه في منافعهم بالرهبة

وقد خبرنا عبر دروب مشيناها طويلا في تاريخنا السياسي كل أنواع الحكم، ومن بينها ظلت الديمقراطية أضعف الفترات بل وأكثرها تفتتا في بنية مجتمعنا، فقد ارتبطت بنوع من الفوضى الأمنية والسياسية، وظل الناعون يجترّون غياب الفكر السياسي الراشد، والسياسات الاقتصادية المنتجة، لدرجة فقدنا فيها الأمل في الديمقراطية فلسفة وحكما، ولم تختلف سياسات اللاحقين عن السابقين كثيرا، فكم من دكتاتوريات قد دُعمت من قبل أميركا (شاه إيران، ماركوس، سوموزا، بينوشيه)، وكم من حكومات ديمقراطية قد سُحقت بدموية (سلفادور ألليندي، مرسي) أو حوصرت لإسقاطها مثل حكومة حماس.

    
الديمقراطية ليست صالحة لزماننا اليوم
ما أكثرهم اليوم دعاة الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة، إنه في الحقيقة رداء حديث وعصري وجميل، لكنه لا يناسبنا -على الأقل في هذه الظروف الكارثية- فهو ليس على مقاسنا، ويبدو علينا مهلهلا كطفل يلبس ثوب جده.
 
ليست الديمقراطية في ذاتها هي الغاية، بل هي وسيلة لتحقيق النهضة وبناء الحضارة، هذه الحضارة لا يمكن لها أن تبني ظروفا استثنائية بأدوات عادية. شئنا أم أبينا، الظروف الاستثنائية ستفرض علينا أدوات استثنائية، وحركة التاريخ تدعم هذه النظرية بشكل قوي وواضح، فالتحولات التاريخية والانتقالات الكبرى التي شهدناها في حياة الحضارات أظهرت وبشكل قوي أن الشعوب أحيانا لا تكون مهيأة للديمقراطية، كالطفل الذي لا يكون مهيأ للمشي، يحمله أبواه حملا في بادئ الأمر حتى يعتاد المشي.
  
ما البديل عن الديمقراطية؟!
إننا نحتاج نظاما مؤقتا يهدف إلى إقامة العدل في فترات التحولات الحضارية، التي من شأنها أن تكون مليئة بالفوضى، ولا نعني به العنف والبطش والطغيان، بل هو الحزم والقوة وقمع الشرور والتفرد بالسلطة إذا لزم الأمر في سبيل نقل المجتمع من حالة التسيّب إلى حالة النظام. وهذا الأمر يمكن تحقيقه عبر عدة تصورات وبدائل، إلا أنني أرى أن الديكتاتور الراشد هو البديل الأنسب والأقوى في أتون حالة الصراع القائمة.
  
الديكتاتور الراشد
والمراد به هو ذلك القائد الحاسم الحازم، الذي يحسم الأمر دون تباطؤ أو خوف، وقد اجتمع المتكلمون على صفات رئيسة يجب أن تتوفر في الحاكم، وهي: العلم والعدالة والورع وحسن التدبير في السياسة والقوة والشجاعة والرفق والرحمة بالرعية، وقد انتقل المصطلح السياسي الغربي إلى الثقافة الإسلامية في أخريات القرن التاسع عشر، ولعل "جمال الدين الأفغاني" ومن بعده تلميذه الإمام "محمد عبده" قد صاغا المصطلح أي "المستبد العادل" بنفس الدلالة التي أوردها الماوردي وابن تيمية وابن الأزرق؛ أي القوي الغالب ذو البأس العادل؛ فنجد محمد عبده يقول: «إنما ينهض بالشرق مستبد عادل، مستبد يكره المتناكرين على التعارف، ويُلجئ الأهل إلى التراحم، ويقهر الجيران على التناصف، يحمل الناس على رأيه في منافعهم بالرهبة، إن لم يحملوا أنفسهم على ما فيه سعادتهم بالرغبة، عادل لا يخطو خطوة إلا ونظرته الأولى إلى شعبه الذي يحكمه، فإن عرض حظ لنفسه فليقع دائما تحت النظرة الثانية، فهو لهم أكثر مما هو لنفسه.
   
الحاكم المستبد العادل، والمتحرر من ضغوط الآخرين، أفضل كثيرا من أي نظام ديمقراطي تعددي، يقوم على أحزاب متصارعة
الحاكم المستبد العادل، والمتحرر من ضغوط الآخرين، أفضل كثيرا من أي نظام ديمقراطي تعددي، يقوم على أحزاب متصارعة
  
هل يعدم الشرق كله مستبدا من أهله، عادلا في قومه، يتمكن به العدل أن يصنع في خمس عشرة سنة ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرنا؟»، ويمكننا ملاحظة تأثر المتأخر بالمتقدم فيما ذهب إليه كل من ابن أبي الربيع والماوردي والغزالي وابن خلدون وغيرهم، فهم يشترطون أن يكون الحاكم مستبدا عادلا، أي حريصا على تحقيق العدل وإفشائه في الأمة.
 
أخيرا، حتى نكون منصفين فإن آفة هذا الأمر هو ما فيه من ملمح شر بجانب ملامح الخير، فمن يضمن ألا يتحول هذا الدكتاتور الراشد إلى طاغية!! أمثلة هذه الفكرة في التاريخ الحديث والقديم قليلة ونادرة لسرعة تحول هذا النظام في غالب الأحيان إلى نظام قمعي تعسفي، فمثلا؛ حققت ماليزيا قفزة كبيرة في التنمية تحت قيادة مهاتير محمد، حتى باتت تجربته في الحكم محل بحث أكاديمي ونموذجا يحتذى في برامج النهضة والتنمية، وهذا ما لا يمكن إنكاره، لكنه كان سفاحا في قمع مخالفيه والبطش بهم.
  

يبقى التحدي في أن الاستبداد يبقى استبدادا، فهو سياق ممتد قد يتحول إلى بيئة معقدة من الظلم والطغيان مخلفا وراءه تركات ثقيلة من الفساد والترهل والضعف

ما أشار إليه محمد عبده هو أن الحاكم المستبد العادل، والمتحرر من ضغوط الآخرين، أفضل كثيرا من أي نظام ديمقراطي تعددي، يقوم على أحزاب متصارعة، وينطوي على جماعات ضغط متحفزة، أي على فرقاء في الميول الإيديولوجي، والمواقع الاقتصادية، وكذلك في رؤية العالم وفي كيفية التعاطي مع الآخرين.

  
هذا الاختلاف الذي يختزل منظومة الحكم في أن يجعلها عبارة عن ارتدادات لعمليات ضغط ومساومة وابتزاز تحيل حياة الحاكم إلى ملاكم محشور في زاوية الحلبة لا ينفك يغطي وجهه بكلتا يديه خشية أن يتلقى ضربة تطيح به أرضا، ويفرض على الحاكم حدودا في الحركة وقيودا في الزمن كفيلة بإغراقه حتى أذنيه في تفاصيل هو والدولة والمجتمع في غنى عنها.
  
إن الدرس الذي يعلمنا التاريخ إياه أن الاستبداد هو طغيان في عمر الطفولة، وأن شهودنا لفرصة نادرة كعمر بن الخطاب باني المدن وأعدل حكام الزمان، الذي رسّخ قيم الإسلام الحقيقية (الشورى، العدل، الحرية) قبل أن تنحرف الحضارة بعده بسنوات قليلة هو أمر صعب المنال، وعزاؤنا في ألا تبقى هذه الفكرة حبيسة النظرية وأن لها تاريخا كتاريخ عمر.
  
يبقى التحدي في أن الاستبداد يبقى استبدادا، فهو سياق ممتد قد يتحول إلى بيئة معقدة من الظلم والطغيان مخلفا وراءه تركات ثقيلة من الفساد والترهل والضعف. أعتقد أن الوعي بالأزمة هو المدخل الرئيسي للوعي بالحل، وأن إدراك عمق المشكلة هو ما سيحقن في أوردتنا وقود السعي إلى الخلاص وجرعة الأمل بعالم أفضل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.