شعار قسم مدونات

القضية ليست فرعون فقط!

blogs - Cairo
ظن الكثيرون بعد أحداث ثورات الربيع العربي أنه بمجرد إزالة الحكام الفاسدين وإطاحتهم من سدة الحكم أن الحياة ستزهو وأن المجتمع سيزهر بالحرية والعدالة والحياة الكريمة. لكن الحقيقة كانت صادمة فمقاومة ومجابهة هذه الأجيال التي تربت في ظل فرعون أشد بكثير من مقاومة ومجابهة فرعون. كثير من دعاة الإصلاح كرس حياته كلها لمقاومة فرعون فقط، وتبنى فكرة أن الحكم لابد أن يكون على رأسه من هو صالح وعادل وصاحب الدين وإن كان غير ذلك فتكون بذور الإصلاح التي يبذرها في المجتمع ليست لها فائدة وكأنه يبذرها في الهواء.

تأمل معي الآيات في سورة البقرة (من الآية 40 إلى الآية 123). والتي يقص الله تبارك وتعالى فيها قصة بني إسرائيل مع سيدنا موسى عليه السلام فعند قراءتك جيدا لهذه الآيات وتأملها ستجد أن الله تبارك وتعالى لم يتعرض لذكر فرعون إلا مرتين فقط مرة في نجاة المؤمنين منه والمرة الأخرى في هلاكه وغرقة. وكأن الرسالة الواضحة من هذه الآيات التي ذكرت في صدر المصحف هي: أن معاناة ومعالجة موسى عليه السلام في إصلاح بني إسرائيل أشد وطأة وأكثر مقاومة من معاناته في إصلاح ومقاومة فرعون.

 

ليس الإصلاح كله عزل أو اقصاء أو هلاك فرعون. لا بد للمصلح والذي يهدف ويسعى إلى مجتمع واعٍ من تخليه عن التنظير والنزول إلى ميدان المواجهة..

فمحاولة بناء وإصلاح المجتمع الفرعوني الذي حدث هدمه والعمل على إنشاء نفوس جديدة تتقبل الحرية الحقيقية المرتبطة بعبودية الرب جل وعلا، والانتقال بهذا المجتمع إلى البناء والعمل والبعد عن مظاهر التناحر والسفسطة والإغراق في الشكليات والجزئيات والطقوسية، أهم بكثير جدا من الانشغال فقط بإسقاط الفرعون.

  

عاش سيدنا موسى عليه السلام 75 عاما قضى منها 30 عاما في بيت فرعون وفيها بدأ العمل على إصلاح واختيار وبناء المجتمع الصغير الذي سيعتمد عليه في ما بعد ليساعده في دعوته قال تعالى "فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه". ثم أراد الله تعالى أن يترك موسى هذا المجتمع ليؤهله لأمر آخر فذهب إلى "مدين" وعاش فيها عشرة أعوام، ثم أذن الله له بمواجهة فرعون فدعاه إلى الإيمان بالله فأبى فرعون.
  
فقاومه واستمرت هذه الدعوة والمقاومة 15 عاما ثم أهلك الله فرعون وتفرغ موسى عليه السلام لدعوة قومة وإصلاحهم وبناء المجتمع 20 عاماً، عانى فيها من المجتمع الذي نشأ في ظل فرعون، 20 عاماً يبني ويربي ويُصلح، وكأن الرسالة الموجهة إلينا من قصة بني إسرائيل أن القضية ليست فرعون وفقط، بل القضية قضية مجتمع فرعون.

 

لا يصح لمن يدعو إلى الإصلاح وينشد التغير أن يفقد الأمل ويقتل أي بادرة تهدف إلى ذلك ولا يحق له نسيان أن من يرتدي ملابس فرعون سيغرق حتما لا محالة
لا يصح لمن يدعو إلى الإصلاح وينشد التغير أن يفقد الأمل ويقتل أي بادرة تهدف إلى ذلك ولا يحق له نسيان أن من يرتدي ملابس فرعون سيغرق حتما لا محالة

 

نعم مواجهة فرعون من الأهمية بمكان، وقد تكون حتمية في كثير من الأحيان، ولكن ليس الإصلاح كله عزل أو إقصاء أو هلاك فرعون. لا بد للمصلح الذي يهدف ويسعى إلى مجتمع واعٍ من تخليه عن التنظير والنزول إلى ميدان المواجهة.. فعندما نجى الله موسى وقومه من فرعون واجه سيدنا موسى عليه السلام مشاكل مجتمعية حقيقية، كما ذكر الله تعالى ذلك في سورة الكهف.
    
ستجد في "قصة السفينة" عمال تُنهب حقوقهم، وستجد في "قصة القرية التي أبت استضافتهم واطعامهم" قرى تحتاج إلى معالجة سلوكية وتنمية روح التعاون وصفة الكرم فيهم، وستجد في "قصة الطفل الذي قتله الخضر عليه السلام" أُسرا مؤمنة وصالحة ولكن ينشأ فيها أبناء عاقون كافرون. فليس معنى أن فرعون باقِ أن أتخلى عن هدفي في الإصلاح والعمل الاجتماعي وتربية النشء الذي سيقاوم ويتحمل مجابهة فرعون.
  
فنهاية فرعون في كل مجتمع حتما معلومة وسنة الله تعالى في الحكام ماضية لا محالة، فإما أن يكون "يوسف" البذل والإنفاق والاتقان ثم الاجتماع بمن فارقهم، وإما أن يكون "فرعون" الظلم والطغيان ثم الهلاك والغرق. فلا يصح لمن يدعو إلى الإصلاح وينشد التغيير أن يفقد الأمل ويقتل أي بادرة تهدف إلى ذلك، ولا يحق له نسيان أن من يرتدي ملابس فرعون سيغرق حتما لا محالة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.