شعار قسم مدونات

هل أنت مجنون حقا أو تدعي بنظر مشيل فوكو؟!

blogs القراءة الناقدة

اطلعت على كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لمشيل فوكو من فترة طويلة وعدت له هذا الأسبوع، فلم يستهوني كثيرا، وهي أطروحته للدكتوراه. إنه يرى أن "الجنون" هو الخروج على المواضعات الاجتماعية، فالحد الفاصل بين الجنون والعقل هو معيار القيم الاجتماعية، ومن ثمَّ فالجنون وصف اعتباري لا حقيقي، ويلزم من ذلك أن التغيّر في تلك المواضعات والقيم والأصول المتبعة في المجتمع سيعني تغيرا في وصف الجنون، فقد يكون جنون في زمان ما ليس جنونا في زمان آخر.

 

ما معنى أن يكون المرء مجنونا؟ من يقرر الأمر؟ إلى أي عهد يعود ذلك؟ هذه الأسئلة الثقيلة أجاب عليها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في عمله الضخم: "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، والصادر بترجمة متميزة للناقد والمترجم المتميز سعيد بنكراد من المركز الثقافي العربي.

 

"القراءة الناقدة" هي من سيحمي القارئ من التورط في "التلقي السلبي"، بحيث يتحول المؤلف كما لو كان مقررا للحقائق النهائية

وقد وجدت فوكو يكرر هذه الفكرة فيما اطلعت عليه من مؤلفاته الأخرى.. ربما اهتمَّ بهذا الكتاب من يريد الإحاطةَ بفلسفة ميشال فوكو، وهو مفكر كبير، بل إن بعض مؤرخي الفكر الفرنسي كانوا يؤرخون العهود الفكرية نسبة لأبرز مفكري تلك الحقب، فوسموا عهدا من عهودها بـ"عهد فوكو"، كما "عهد سارتر".. وغيرهم، لكن من أجود مؤلفاته -بحسب قراءتي- هو كتاب "حفريات المعرفة"، وأيضا كتاب "نظام الخطاب" لا بأس به، كما أن كتاب "الكلمات والأشياء" جميل، اقتنيتُهُ من فترة طويلة إلا أنني لم أقرأه بعد، ويوجد مدخل جيد ومختصر لقراءة فوكو من تأليف الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، وللدكتور السيد ولد أباه أطروحة عن فوكو، وقد طُبعت بعنوان "التاريخ والحقيقة لدى ميشيل فوكو"، وهي جديرة باطلاع من يهتمون بفكر فوكو.

قد يصح لي أن أقول: إن فوكو ممن يرى -كنتيشه وكثيرين غيره- أن المعرفة مرتهنة للإرادة، وإن السلطة -بكافة أشكالها وصيغها، اجتماعية كانت أم سياسية أم غير ذلك- هي من يقرر الحقيقة، أي إنهم ينفون بشكل قاطع وجود معرفة "موضوعية"، بمعنى أنه لا حقيقة، إذ الحقيقة تخترعها وتطلقها الإرادةُ ثم تسلّط المعرفةَ -بعد ذلك- للحاق بها، فالإرادةُ إذن هي أول من يحفر مجرى نهر المعرفة، ولهذه المقولة خطورة بالغة، كما أنها لا تصح بإطلاق.

في العموم، فإن فوكو -كغيره من المفكرين والفلاسفة- يحتاج إلى "قراءة ناقدة"، لا بد أن نتسلح بها قبل الشروع في قراءتهم، وسأتعرّض إلى فكرة "القراءة الناقدة" فهي من سيحمي القارئ من التورّط في "التلقي السلبي"، بحيث يتحول المؤلف كما لو كان مقررا للحقائق النهائية، أي -وبالأدق- مدمرا عاتيا للخلفية الفكرية والثقافية للقارئ، وهذا ما قد نصادفه فيمن نراهم ينقلبون فجأة من النقيض إلى النقيض، صورة حادة مثيرة للشفقة (والغضب أيضا)، وهي حالة من حالات انهيار الوعي، لا انبنائه، كما أنها كالدليل على حدوث تعرض فكري مكثف لم يكن المتلقي مستعدا له.

 

الاستيعاب يعني -في مجمله- احتواءَ مكامن القوة والضعف في النص، وهذه هي القراءة الناقدة، وعندما يصلها القارئ فهذا يعني أن تكوينه المعرفي والفكري جيد
الاستيعاب يعني -في مجمله- احتواءَ مكامن القوة والضعف في النص، وهذه هي القراءة الناقدة، وعندما يصلها القارئ فهذا يعني أن تكوينه المعرفي والفكري جيد
 

إجمالا، فإن الكتب في الأساس ليست إلا شيئين: موضوعات ومعالجات، هي قضايا يطرحُها المؤلفون ثم يتصدون لمعالجتها وفقا للمنطق الذي يرونه مناسبا (أعني هنا الكتب الجيدة)، فليس غريبا أن ترى قضية تناولها أكثر من كتاب، لكن المعالجات ستختلف بحسب مناهج واجتهادات المؤلفين، ولهذا فإنني أرى أن الفائدة الأهم في القراءة ليست مجرد تزويدنا بالمعلومة، بل في تمرين أذهاننا على استعراض تلك المعالجات المختلفة، خصوصا عند قراءة أكثر من كتاب يبحث في قضية واحدة.

 

وعندما يستطيع القارئ أن يعثر على نقاط الاشتباك بين المؤلفين، ويفهمها، فهذا مما يدل على أن قراءته جيدة، فإن قادته تلك النقاط الخلافية إلى أن يضع يدَهُ على المنطلقات الكامنة في تفاصيل تلك المعالجات المختلفة، بمعنى أن يصل إلى أن الخلاف والتباين في وجهات النظر متفرّع أصلا عن خلاف أعمق في المنطلقات والمنهج، وهذا مؤشر إلى أن القراءة قد بلغت مستوى أرفع، وهكذا تتصاعد العملية القرائية حتى تصل إلى درجة استيعاب وهضم المقروء تماما، والاستيعاب يعني -في مجمله- احتواءَ مكامن القوة والضعف في النص، وهذه هي القراءة الناقدة، وعندما يصلها القارئ فهذا يعني أن تكوينه المعرفي والفكري جيد، وطبعا فإن للنص المقروء دلالته، فكلما كان النص متينا عميقا، كانت دلالته على قوة قارئه أوضح، وهكذا..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.