شعار قسم مدونات

"عبيد الخوف".. هلّا رفعتم رأسكم مرة؟!

blogs انصار الدولة

أولئك الذين سكنهم الخوف عقودا طويلة حتى جردهم من إنسانيتهم وخلق لديهم مفاهيم صُنعت على عين الخوف ولم تتزحزح حتى بعد أن اقتلعت أسبابه بل وراحت تورّث مع الجينات إلى الأبناء. من هذه المفاهيم المشوهة: الدولة قدر السماء والحاكم الإله.

هذا إيمانهم، فلا قبل ولا بعد ولا تاريخ ولا مستقبل إلا حكم الطاغية. هو الأول والآخر والذي لا بديل له إلا العدم والفناء، عالم الغيب حتى لا يكاد يجرؤ أحدهم على أن يفكر بينه وبين نفسه من أين أتى؟ وأنّى له كل هذا؟ من سمّاه ومن أعلاه؟! وهو خالد لا يموت وإلى الأبد، تستمر روحه في أبنائه ومن هم عصابته الذين يرثون الألوهية أيضا من بعده.

 

أقواله كالآيات المنزّلة. هزائمه انتصارات وجرائمه حركات تصحيحية ودحرٌ للإرهاب، وإلقاؤه بعض الفتات اليابس من حقوق "عباده" إليهم تسمى عطايا ونعَم، فيقولون أنعمَ علينا بالتعليم المجاني في الجامعات وأنعم علينا بوظائف في دوائر طاعته وأنعم علينا بالكهرباء، وأنعم علينا بكوبونات الأرز والسكر والطحين، وأنعم علينا بطلته البهية كل ألف حين مرة، وأنعم علينا بنعمة الأمن والأمان فلا يقتلنا ولا يذبحنا إن أذعنّا وارتمينا في أحضان العبودية وسبّحنا بحمده وقرّبنا القرابين من ممتلكاتنا ونسائنا ليطفئوا شهوته الجامحة، ومن أطفالنا ليصطحبهم فيزجّهم في أتون المحرقة في معاركه ضد الشياطين التي تمردت عليه.
 

أبناء الخوف لا يمكن أن تخطر في بالهم أسئلةُ عن الدولة وكيف تشكلت ولا من أين أتت، هذه أسئلةُ فلسفة زائدة كتلك التي تبحث عن أصل الوجود وأصل الخلق

وأنعم علينا بفروع الأمن نعمل فيها بإخلاص وتحمينا من أنفسنا ومن العذاب الذي قد تلحقه تلك الأجهزة بنا إذا ما فكرنا أن نعصيه، وهو الغفور الرحيم أحيانا ينعم علينا "بعفو عام" عن "معتقلي الرأي" ممن جحدوا نعَمه وقدرته، ما أكرمه وما أعظمه. عذابه لنا إن وقع، عقاب محق على ذنوبنا وكفران لها، فإذا سمعوا: فلانا أخذته قوات الأمن إلى ما وراء الشمس فيقولون: "لا بد أنه فعل فعله" فجلب على نفسه الموت والهلاك بذنبه وما جرى عليه إلا قدر السماء المستحق، بدل أن ينادوا "بأي حق وأي شرع تستلب منه حياته هكذا".

  

وإنه لمن المؤسف والمحزن جدا أن يستبد الخوف كلَّ هذا في إنسان حتى يُفقده إنسانيته. أولئك الذين أذعنوا طوعا بل وآمنوا في ما بعد بأحقية عصابة صغيرة أو شخص واحد أن يملك ملك اليمين الملايين لخدمة عرشه وجبروته. أي منطق وأي قيمة تدفعهم حين ينساقون وراء الفتات من زبد الحياة التي تحرمهم إنسانيتهم وبشريتهم التي من المفترض أنهم جبلوا عليها كبشر! وأن ينسوا عهد الحرية مهما كان قريبا بهم بمجرد أن وضع النير على أعناقهم.

 

يقول إيتيان دو لا بويسي في مقالة العبودية الطوعية: "أيتها الشعوب المسكينة والبائسة والحمقاء، أيتها الأمم المكابرة في دائها والعمياء عن نعمتها، أنتم تتراخون فتدعون الأجمل والأنقى من رزقكم يختطف من أمامكم، فحقولكم تنهب وتسرق، وبيوتكم تعرى من الأثاث القديم الذي كان لآبائكم. وتعيشون على نحو لا يسعكم معه الزهو بأنكم تمتلكون شيئا. يبدو أنكم، إذا ترك لكم نصف ممتلكاتكم ونصف عائلاتكم، ونصف حياتكم، تعتبرون ذلك سعادة كبرى".

 

أما هذا الويل كله وهذه المصيبة وهذا الدمار، فلا يلحق بكم على أيدي الأعداء، بل الأكيد حقا على يد العدو الواحد، يد ذاك الذي جعلتموه كبيرا جدا على ما هو عليه، والذي لا تتوانون من أجل تعظيمه عن تقديم أنفسكم للموت. إلا أن هذا الذي يسيطر عليكم تلك السيطرة كلها ليس له سوى عينين اثنتين ويدين اثنتين وجسد واحد، وليس فيه من شيء آخر يزيد عن أدنى رجل من عدد سكان مدننا اللامتناهي، باستثناء الامتياز الذي تهبونه إياه ليتولى تدميركم، فمن أين جاء بذلك العدد الكبير من الأعين التي يترصدكم بها، ما لم تكونوا أنتم أعطيتموه إياها؟ وأنى له تلك الأيدي كلها فيضربكم بها، مالم يأخذها منكم؟".

undefined

أبناء الخوف لا يمكن أن تخطر في بالهم أسئلةُ عن الدولة وكيف تشكلت ولا من أين أتت، ومن أعطاها هذا الحق في أن تكون ما تكون، أو أن تحيي وتميت، ولماذا الدولة؟ هذه أسئلةُ فلسفة زائدة كتلك التي تبحث عن أصل الوجود وأصل الخلق، نحن أبناء اليوم وأبناء الخوف معرفة كهذه قد ترتب علينا مسؤولية ما، لا سمح الله، وتعيقنا عن السير في دوامة الحياة المعدة مسبقا لنا، نحب أن نمشي جانب الحائط، ذي الآذان، كما تعلمنا ونقول "يارب الستر".

 

يقول عبد الله العروي في حديثه عن الدولة في كتابه (مفهوم الدولة): "تواجهنا الدولة كمعطى بديهي، يُطلب منا أن نقبله بلا نقاش، كما نقبل خلقتنا وحاجتنا للأكل والنوم واتكالنا على العائلة أو العشيرة، نقبل إذا من ضمن ما نقبل بدون نقاش، وجود الدولة، ولا يجدي أن نتصور حالة مسبقة لظهور الدولة. حتى لو وثقنا بوجود تلك الحالة، فإنها لن تنفعنا في فهم الدولة القائمة حاليا، كما أن حالة الكون قبل ظهور الإنسان لن تنفع في إدراك فيزيولوجية الإنسان الحالي".

ذلك ما يتمناه أصحاب السلطة. لأن أي سؤال عن الدولة يعني السؤال عن الأصل والهدف. وهو سؤال يفتح الباب لسؤال الحرية "المحرمة". وبناء على ما يعتقدونه، فإن أبناء الخوف يرون أن الثورات على الأنظمة الاستبدادية بأنها هي السبب في شلال الدماء الذي يتدفق وخراب الأوطان، هذا جزاء من يكفر، ولا يُسأل إله عما يفعل! تجدهم لا يتوانون أن يشيروا بأصابعهم إلى طفلة إن هي غنّت أغنية للحرية ليدلوا عليها أجهزة مكافحة الإنسان والإنسانية، سواء سمعت الحيطان غناءها أم لم تسمع، يكفي أن يسمعوا هم حتى يرتعدوا كما لو أن عقيدتهم مٌسّت وتهاوت أمام عيونهم.

أبناء الخوف يرون أن الثورات على الأنظمة الاستبدادية هي السبب في شلال الدماء الذي يتدفق وخراب الأوطان، هذا جزاء من يكفر، ولا يُسأل إله عما يفعل!

بالنسبة لأبناء الخوف، كان على أهالي الأطفال في درعا الذين اقتلعت أظافرهم واعتُقلوا وعُذّبوا أشد تعذيبٍ لأنهم كتبوا على الجدران "الشعب يريد إسقاط النظام"، أن يذعنوا لقوات الأمن حين قالوا لهم لدى مطالبتهم بأطفالهم: "إئتونا بزوجاتكم لنأتي لكم بدلا منهم" لا أن يشعلوا الدنيا ثورة تضيء عصرا جديدا سقط فيه حكم الطاغية وتهاوى تحت نار غضبهم الذي صدحت به الساحات والشوارع.

 

وبالنسبة لهم أيضا يُوأد الناس تحت ركام بيوتهم بالمئات قدرا محتما، لأن هؤلاء قد خرقوا قانون الإله وصرخوا بأعلى صوتهم في وجهه "لا"! فشرَع هذا الإله يتخبط في كل مكان بكل ما أوتي من وحشية يخطف أبناء الثورة واحدا تلو الآخر ويزجهم في الأصفاد، ويلقي بعضهم على قارعة الطريق أشلاء أو جثثا محروقة، ويعذبهم حتى الموت، ويقصفهم بالطائرات ملقيا عليهم حمما وبراكين حقد وعيون أبناء الخوف مفتوحة على ملئها متسعة أحداقها يسكنها الذعر تصرخ فينا مرتعدة!!: الله، لم يغفر خطيئة الشيطان حين قال لا!

أما الثائر الذي تمرّد وكسر خوفه لأجله ولأجلهم ولأجل كل الإنسانية والمرمي في أتون النار كإبراهيم. المصلوب في ظلمات المعتقل كعيسى المسيح فلسان حاله يقول لهم:

معلّق أنا على مشانق الصباح

و جبهتي – بالموت – محنيّة

لأنّني لم أحنها .. حيّه!

يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين

منحدرين في نهاية المساء

في شارع الإسكندر الأكبر :

لا تخجلوا ..و لترفعوا عيونكم إليّ

لأنّكم معلقون جانبي .. على مشانق القيصر

فلترفعوا عيونكم إليّ

لربّما .. إذا التقت عيونكم بالموت في عينيّ

يبتسم الفناء داخلي .. لأنّكم رفعتم رأسكم .. مرّه !

(أمل دنقل)

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.