شعار قسم مدونات

حين اعتقدت "ساقية" أن الجن يسكن الآيفون!

blogs -yemen

في بيئة قاسية جغرافيا خُلقت وترعرعت وهي تقاوم الشقاوة والتعاسة؛ بالرغم أنها لا تشعر بذلك؛ لغياب عنصر المقارنة لديها. لم تهنأ ساقية بالعيش في ظّل أمها التي توفيت وهي لا تزال طفلة عمرها لا يزيد على أربع سنوات، وهكذا تجرعت مرارة اليُتم منذُ بواكير حياتها، والذي أضاف ضِعف القساوة، وزاد من حجم تأثيرها بعد وفاة أمها، العيش بجانب زوجات أبيها القاسيات في تعاملهن معها بلا ضمير ولا شفقه، وهكذا كان تعامل بعض إخوانها أكثر قسوة وعنفا، والذين ﻻ يأبهون للأنثى، فهي دائما مقهورة، و ظلّت تكبر والتعاسة والحزن يكبران معها كل لحظة.


ساقية تكمل تفاصيل حياتها بدون أم

في صباح يوم جديد بقريتها ذات الطبيعة القاسية، استيقظت ساقية باكرا ككل يوم، ابتهجت بتوافد لفيف من أهالي القرية إلى منزلهم؛ وفجأة تسمع بكاء النساء (المعازي)لا سيما أخواتها، بل إن البعض منهن كن يضربن أنفسهن، وسرعان ما تغيرت ملامح ساقية وبدأت بالبكاء من هول المشهد الذي تعيشه، ولم تكن تعلم ماذا يحدث، غير أن الموت قد اغتال أمها. من هنا تبدأ تفاصيل مأساة فتاة ريفية تعيش خارج حدود الزمان والمكان.

 

ثمة أشياء كانت ستنتهي بمأساة بعد أن كادت السيارة تنقلب في نقيل القرية الوعر، لكن العدالة الإلهية تدخلت ولم تسمح بحدوث شيء 

الكآبة والمعاناة لم ترفعا يديهما عن جلد الطفلة ساقية، مرت الأيام ومرارة الفقدان تلاحقها؛ وكأنها خلقت لترث الحزن، فقد توفي أخوها صالح الذي كان سندا لها في كل شيء، لاسيما عاطفيا وماديا، بعدما فقدت أمها، تاركا فراغا أكبر من رحيل أمها؛ لأن الموت حينها غير مفهوم في قواميس الطفولة. لم تتوقع ساقية أن ذلك الكمّ الهائل من الفواجع سيسكُنها وأن مناخ البكاء سيكون مناخها الدائم إلى جانب الطبيعة الوعِرة والاستبداد الذي يُفرض على طفلة لم يتجاوز عمرها العاشرة.

 

حرمان ساقية من التعليم واضطهاد الخالات

كانت ساقية تكبر وتحلم بأن تلبس الزي المدرسي كباقي زميلاتها من بنات القرية، وتحمل الأقلام  والدفاتر علها ترسم مستقبلها الذي ينتظرها، لكنها تتفاجأ بوقوف خالاتها ضد تعليمها؛ فالمجتمع الريفي ينظر إلى الفتاة نظرة دونية، إضافة إلى جهل أبيها الذي توافق مع قرار خالاتها التعسفي، اللاتي لم ينظرن إليها كإبنة، وإنما تم التعامل معها بدون إنسانية أو ضمير.

  

undefined

  

أضحت حياة ساقية بين حُلم جميل تتطلع إليه وواقع مأساوي، يُمارس في حقها وحق الطفولة بشكل عام، لم تجد الطفلة ساقية نفسها إلا في بيت يفرض عليها الذهاب إلى الوادي قبل شروق الشمس لحراسة الزرع من الطيور والأنعام إلى الظهيرة، دون النظر إلى جوانبها الصحية والنفسية، ودون مراعاة لنفسيتها المتعطشة لمن يحن عليها، وما إن تكمل عملها حتى تعود إلى البيت متعبة من الإرهاق، وكل من يراها يقرأ قصتها الإنسانية في ملامح وجهها الشاحب مِن جُور البرد القارس في الصباح وحرارة الشمس الحارقة في الظهيرة.. لم تنتهِ أحداث التراجيديا في قصة ساقية، فقد تشاكل أهلها مع أبناء عمومتها ليتم قتل عمها ويشرد أبوها وإخوانها بعد ذلك هاربين من الثأر. وبعد مرور سنة على هذه الفاجعة تقدم أحد الشباب لخطبة ساقية ليتسلل الفرح إلى قلبها المكسور بفعل تراكم الأوجاع.

 

موعد زواج ساقية

يقال إن الحب الحقيقي يصنع المعجزات، ومن نوافذ هذا الحب تم الاتفاق على موعد محدد لزواج ساقية، لكن ثمّة أشياء تحصل دون إرادتنا، يتهامس أناس من سكان القرية،  لقد قتلوه الروافض، لقد قتلوه المجوس، ولم تكن تعي هذه المصطلحات ولا دلالتها، غير أن قلبها يحترق، ووصل خبر استشهاد أخيها خالد الذي يقاتل في إحدى الجبهات إلى جانب الحكومة الشرعية اليمنية، لتضيف بذلك كارثة أخرى تمزق الفرح المنتظر، وتأجل وقت الاحتفال بالزواج إلى أجل غير مسمى، واختلط واقع الفرح بالدموع.

 

وجدت زوج ساقية متأثرا ببعض المذاهب الفلسفية أمثال الدكتور علي الوردي الذي يقول إن بنت الجبل أصدق حبا ووفاء من بنت المدينة

وبعد مرور سنتين على استشهاد أخيها، كان الواقع قد فرض عليها وعلى كل محبي الشهيد خالد التصديق واليقين بأن خالدا قد رحل عنا، مقبلا غير مدبر، مناضلا في سبيل استعادة الجمهورية. وبدأت الأيام ترجع إلى طبيعتها رغم الحزن المخيم عليها، وتم تحديد موعد للزواج، لكنه لم يكن كسابقهِ فلم يكن هناك ولو جزء بسيط من الفرح، فقد أصبحت النفس مكسورة من كل شيء، غير أن تطبيق سنة الله في الحياة قد جعلها قوية لمواجهة قرار مثل هذا في غياب أبيها وكل إخوانها.

 

زواج ساقية و تعليمها

وأخيرا دقت الدفوف وسُمعِت أغاني الزفة اليمنية من على سطح منزلهم، وتلونت السماء بالألعاب النارية ، وقد كان عرسا ليس له مثيل في القرية، إضافة إلى تعاطف الجميع مع ساقية، فقد وجدت فيهم ساقية الأخ والأب وكانوا سندا لها في كل شيء تحتاجه، وبعد أن أوشكت تفاصيل العرس على الانتهاء، خرجت ساقية من بيتهم وزغاريد النساء ترتفع في السماء لتنتقل العروس إلى السيارة الوحيدة في القرية التي ستوصلها إلى منزل عريسها، الذي كان ينتظرها على أحر مِن الجمر، لكن ثمّة أشياء كانت ستنتهي بمأساة بعد أن كادت السيارة تنقلب في نقيل القرية الوعر، لكن العدالة الإلهية تدخلت ولم تسمح بحدوث شيء.

  

السيارات التي جاءت لاستقبال العروس كانت متوقفة تنتظر في منتصف الطريق، وذلك يعود للعادات القبيلة والأعراف في مناطق اليمن، وأخيرا وصلت السيارة التي تقّل العروس إلى موكب الشواعة الذين كانوا ينتظرونها، ووصلت أخيرا واكتمل الزفاف بوصولها إلى منزل شريك حياتها.

  

undefined

 

التقيت زوج ساقية، مؤخرا، في جلسة مقيل، فقد وجدته متأثرا ببعض المذاهب الفلسفية أمثال الدكتور علي الوردي، الذي يقول إن بنت الجبل أصدق حبا ووفاء من بنت المدينة. يقول زوجها إنه من أول شهر بدأ تعليمها الحروف الأبجدية ويحاول طمس جهلها شيئا فشيئا، وإنه بدأ يأخذها في رحلات إلى المدن المختلفة في اليمن، فيصف لي قائلا إن اندهاشها من خط الإسفلت كبير وإنها كانت تنظر إليه وتمسك بيده بقوة من شدة الخوف عند مرور السيارات الكثيرة، كون هذا المشهد تراه لأول مرة، والذي جعلها تعيش دهشة العالم الخارجي، بعد أن كانت محصورة بين جبال القرية وسيارة جوير الوحيدة.

  

لم يكن زوجها قد توقف عن ممارسة دهشته ومتعته، فقد شرح لي أيضا أنه عندما وصل المدينة اشترى لها هاتفا تعمل شاشته باللمس، وكانت تسأله وتسائل نفسها ما الذي يحرك هذه الشاشة المضيئة، وقالت (أو هم جن يحركوه)، وقتها دمعت عيناي من شدة الضحك، فتأكدت أن تفكيرها لم يكن إلا اعتقادا بحكايات جدتها الخرافية عن الجن وقوتهم وقدراتهم. سألتُ زوجها بكل صراحة، هل تستّخف بزوجتك كون الفارق التعليمي بينك وبينها كبير جدا؟ فقال لي: "لا بل إنني أعيش حياة سعيدة، وأجزم بالقول إنها تعيش دور المندهش وأنا أعيش دور الفيلسوف".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.