شعار قسم مدونات

سبارتاكوس الأفريقي.. لومومبا الثائر المغدور

blogs لومومبا

فلترفعوا عيونكم للثائر المشنوق.. فسوف تنتهون مثله.. غدا..

 (كانت تلك كلمات أمل دنقل في قصيدته الأسطورية "كلمات سبارتاكوس الأخيرة")

  

لا إرادياً استدعت ذاكرتي الزعيم الأفريقي الملهم "باتريس لومومبا" عند تذكري لتلك الأبيات، ربما لا يعرف البعض أن هناك في وسط أدغال القارة السمراء، ملحمة كان بطلها شاب أفريقي مات في عمر الخامسة والثلاثين غدراً على أيدي محتليه. ولد لومومبا في عام ١٩٢٥ في قرية صغيرة لقبيلة المونجو، كان لومومبا محظوظاً كونه من النخبة الكونغولية التي استطاعت استكمال تعمليها.

 

للكونغو تحت الاحتلال البلجيكي وضع خاص وعجيب جداً، كانت الكونجو ملكية خاصة لملك بلجيكا "ليوبولد السادس" بشخصه، والملكية هنا لا تعني الملكية السياسية كمحتل، بل هي ملكية شخصية، يمتلك الملك فيها ثروات الأرض -وهي مهولة- والشجر والبشر، وملكية البشر هنا ليست مجازية، تاجر ليوبولد السادس في البشر وباع سكان الكونغو كعبيد حرفياً، لم تكن هناك مقاومة للمحتل تذكر قبل ظهور البطل الأسطوري باتريس لومومبا، حيث عمل على إحياء روح المقاومة بين أبناء وطنه الثري بثروات لا حصر لها، تخرج من باطن الأرض رأساً إلى خزائن المحتلين؛ ألماس، يورانيوم، نحاس، وغيرها من الثروات التي حُرم منها الشعب لصالح ملك بلجيكا.

 

بعد استكمال تعليمه توظف في البريد، وبسبب نشاطه السياسي المعادي للاحتلال من خلال إحياء روح المقاومة، تم تلفيق تهمة السرقة، وسُجن البطل، خرج واستكمل مسيرته مع شعبه ليصبح بذرة الصحوة الوطنية التي استيقظت، أسس حزب "الحركة الوطنية الكونغولية" وجريدة الاستقلال، وألهب الجماهير بخطاباتة وتحركاته في الداخل والخارج التي يفضح بها جرائم الاحتلال البلجيكي لبلاده، ما أدى في النهاية إلى اعتقال لمدة سته أشهر.

  

حصد لومومباً أصوات ٩٠٪؜ من أصوات الشعب الكونغولي في انتخابات خاضها ١٠٠ حزب سياسي، وهي نتيجه تعبر عن من هو وما هي أهميته في قلوب شعبه
حصد لومومباً أصوات ٩٠٪؜ من أصوات الشعب الكونغولي في انتخابات خاضها ١٠٠ حزب سياسي، وهي نتيجه تعبر عن من هو وما هي أهميته في قلوب شعبه
     

وكانت تلك الشراره التي أدت إلى هبة عظيمة في وجه المحتل وأجبرت الاضطرابات والمواجهات التي سادت البلاد البلجيكَ إلى إخراج لومومبا من السجن، ورأسا من السجن إلى بروكسل للتفاوض حول الاستقلال بعدما تأكدوا أنها موجة عاتية، وان استمرار الأوضاع كما هي عليه مستحيلة، وتم الاتفاق على إجراء استفتاء شعبي على استقلال البلاد تحت إشراف دولي لمعرفة رأي الشعب في المطالبة بالاستقلال، وتم النزول على رغبة الشعب وإنهاء احتلال دام ثمانين عاماً.

 

حصد لومومباً أصوات ٩٠٪؜ من أصوات الشعب الكونغولي في انتخابات خاضها ١٠٠ حزب سياسي، وهي نتيجه تعبر عن من هو وما هي أهميته في قلوب شعبه،.. في حفل الاستقلال حضر ملك بلجيكا "بودوان" ورئيس وزرائه، وفي كلمته أهان ملك بلجيكا الكونجو وشعبها، مدعياً أن بلجيكا وأبناؤها ضحوا من أجل "تمدين" الكونغوليين وتعليمهم وإخراجهم من حياة البربرية، وهنا قاطعه لومومبا بشجاعة تليق به، وتحدث في خطاب تاريخي أطلق عليه "خطاب الدموع والدم والنار".. فذكّر الحضور بفظائع الاحتلال البلجيكي لبلاده، واستعباد أهلها وإهانتهم، ذكرهم بالصفع على الوجوه لا لشيء إلا لأنهم سود، وعن الاتجار في البشر الذي مارسه ملك بلجيكا، وعن الثروات المنهوبة بواسطتهم، وختم خطابه التاريخي بعبارة "لقد تعرضنا للسجون والرصاص فقط لأننا نسعى للحفاظ علي كرامتنا كبشر..".

 

شعر الملك بودوان بالإهانة فأضمر شرّا كان بالفعل قد أعده له قبل إعلان الاستقلال، بدأ لومومبا في تشكيل حكومة حرص أن تكون حكومة وحدة وطنية تضم كل أطياف الشعب، وظهر ثلاثة رجال أقوياء، "كازافوبو" تم إعلانه رئيساً "شرفياً" للبلاد، لومومبا "رئيساً للوزراء"… والثالث كان تشومبي الذي فضل البقاء في كاتنجا وعدم الحضور للعاصمة حتى في احتفال الاستقلال، كان إفشال التجربة سهلاً، فقط كان عليهم الاتصال بعملائهم في الداخل، وبدأت المعاناه التي لم تنته حتى كتابة هذه السطور بعد مرور نصف قرن على ما نتحدث عنه.

  

قصة أخرى من قصص الظلم مات فيها البطل وعاش الخائن منعماً، عاش لومومباً في أعماق أذهاننا بطلاً عظيماً ملهماً، ولكنه ويا للأسف لقي مصير سابقيه وعلي رأسهم سبارتاكوس
قصة أخرى من قصص الظلم مات فيها البطل وعاش الخائن منعماً، عاش لومومباً في أعماق أذهاننا بطلاً عظيماً ملهماً، ولكنه ويا للأسف لقي مصير سابقيه وعلي رأسهم سبارتاكوس
  

البداية كانت من تشومبي بإعلان نفسه مسؤولاً أمام شركات الماس والنحاس واليورانيوم بعيداً عن الحكومة المركزية في العاصمة، وهو ما يعني انفصال إقليم كاتنغا الغني بالموارد الطبيعية، رفض لومومبا الذي وجدت حكومته نفسها أمام أوضاع أمنية فوضوية تظهر فيها بوضوح آثار تدخل المحتل السابق عن طريق عملائه في الداخل، وهبط على كاتنجا تحالف يضم رجال المخابرات المركزية الأمريكية وعلى رأسهم "فرانك كارلوتشي".. وكبار الرأسماليين في العالم وفي مقدمتهم البارون "جي روتشيلد" سليل عائلة "روتشيلد" الشهيرة، وما أدراك من هم، و"هاري أوبنهايمر" رئيس مجموعة جنوب أفريقيا المالكة لامتياز مناجم الماس في كاتنجا. واستطاع هذا التحالف الذي أخذ الضوء الأخضر من الرئيس الأميريكي "أيزنهاور" التخلص من لومومبا..

 

استطاع تحالف الشرّ شراء ذمة قائد جيش لومومبا "موبوتو سيسي سيكو"، ورئيس الدولة الموالي لبلجيكا من البداية، الذي أعلن بدون وجه حق، لعدم امتلاكه الصلاحية، إقالة لومومبا. طلب لومومبا تدخل الأمم المتحده التي أرسلت فعلاً قوات متعددة الجنسيات من ضمنها قوة مصرية على رأسها العقيد، وقتها، سعد الدين الشاذلي، مكونة من ٥٠٠ ضابط وجندي، ومجموعة ضباط اتصال على رأسهم العميد، وقتها، أحمد إسماعيل علي، سرعان ما نشأت الخلافات بين لومومبا والأمم المتحدة حول طبيعة القوات ومهمتها، وقرر الرئيس المصري "جمال عبد الناصر" سحب قواته حتى لا تكون شاهدة وعاجزة عن حماية رئيس الوزراء.

 

حيث إن القيادة والأوامر تصدر من الأمم المتحدة لا من مصر، وحدث المتوقع، حيث قبض موبوتو على لومومباً وسلمه إلى غريمة "تشومبي" الذي لم يتردد في تسليمه إلى المحتلين الذين قتلوه ببشاعة، حيث اقتادوه مقيداً وأوسعوه ضرباً وتعذيباً، ثم اقتادوه إلى كاتنجا حيث جرى إعدامه، ثم قُطعت جثته وتم تذويبها في حامض كبريتيك، في جريمة اعترف بها الضابط "چيرارد سويت" الذي كُلف بتلك العملية في برنامج تلفزيوني سنة ١٩٩٩، حيث قال إنه أحتفظ بسنتين من أسنان لومومبا كتذكار.

 

لم يبق من القصة إلا الوجه المشرّف الذي قام به المصريون، حيث أمر الرئيس جمال عبد الناصر، بطلب من لومومبا، العقيد سعد الدين الشاذلي بتهريب أبناء لومومبا إلى مصر خوفاً عليهم، واستطاع البطل المصري إخراج أبناء لومومبا؛ حيث استقبلتهم عائلة الرئيس المصري، وتعهدهم الأستاذ عبد العزيز إسحاق، صديق لومومبا الشخصي، وتم تخصيص مسكن لهم وعاشوا وتعلموا في مصر..، قصة أخرى من قصص الظلم مات فيها البطل وعاش الخائن منعماً، عاش لومومبا في أعماق أذهاننا بطلاً عظيماً ملهماً، ولكنه، ويا للأسف، لقي مصير سابقيه وعلى رأسهم سبارتاكوس.. وربما ردد ما قاله أمل دنقل:

 

"يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين

منحدرين في نهاية المساء

في شارع الإسكندر الأكبر:

لا تخجلوا.. و لترفعوا عيونكم إليّ

لأنّكم معلقون جانبي.. على مشانق القيصر

فلترفعوا عيونكم إليّ

لربّما.. إذا التقت عيونكم بالموت في عينيّ

يبتسم الفناء داخلي.. لأنّكم رفعتم رأسكم.. مرّة !"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.