شعار قسم مدونات

القهر والتخلّف.. سيكولوجيا العلاقة

Blogs- man
توصف مجتمعات العالم الثالث بأنها مجتمعات متخلّفة بالبداهة، وأن التخلف فيها شديد الصلة بالعوامل العرقية والثقافية، وتَتّهم فيها النخب شعوبها بأنها شعوب سلبية تقاوم التحديث وتجتر مآسيها بشكل مرضي عصي على العلاج، فيترسّخ بذلك مفهوم التخلف القَدَري الذي لا يُعرف له سبب ولا يُرجى له زوال.
 
إن هذا الوصف الاستهلالي هو النشيد الرسمي الذي تريد الأنظمة الشمولية ألا ينقطع عزفه، فهو ما يمنحها ضمانات البقاء ويُبعد عنها تُهم التخلف، ذلك التخلف الحضاري الذي يتجاوز بالمنظور السيكولوجي مسائل التكنولوجيا والاقتصاد، ليستقر حول قيمة الحياة الإنسانية والكرامة البشرية، وبذلك فإن أي محاولة لفهم بُنية التخلف لا يمكن أن تُجرى خارج علاقة الشعوب بحكّامها وقادتها، وخصوصا فيما يتصل بفرضية ربط التخلف -وفق مفهومه السيكولوجي سابق الذكر- بالقهر الذي تعرضت وتتعرض له الشعوب.
 
تبدأ الممارسات الأولى للقهر مع دخول الأطفال للمدارس أين تُسلّط عليهم صنوفٌ شتى من تجارب التعليم التلقيني الذي يجعل من ذلك الطفل الصغير المتسائل بطبعه المفكر بجِبِلّته مجرد فراغ يتم تعبئته بمعارف أنتجت في الغالب خارج واقعه الذي يعيش فيه، فلا تتيح له هذه الممارسات النمطية أي فرصة لتحقيق إرصان عقلي حقيقي، فيتقبل التلميذ -قهرا- تلك الازدواجية بين ما يقدم له داخل المدرسة من معارف "نظرية" وبين ما يسود واقعه من معارف شعبوية تقليدية.
 
ولأن الإعلام غالبا ما يتكلم بما تشتهيه أفئدة السلطة، فإنه سيعزف على نشيدها وسيُرسّخ بشكل متحيز فرضية أن التخلف قدر، وأن بقاء السلطة هو الضامن الوحيد لعدم تحول هذا التخلف إلى فوضى، وبأن وجود العصى ضروري للحيلولة دون التراجع والتدهور أكثر؛ وعادة ما يجد هذا الإعلام في جغرافيا التخلف الأخرى عدة أمثلة عن النتائج السلبية لسقوط السلطة، فيجعل منها عنوانا رئيسيا دائما في نشراته الإخبارية.
  

يمكن للفرد المقهور أن يستخدم بعض الآليات الدفاعية المتوسطة والتي من أهمها استسلام الفرد لواقعه وتَحَوُّله إلى ما سماه المفكر الفرنسي
يمكن للفرد المقهور أن يستخدم بعض الآليات الدفاعية المتوسطة والتي من أهمها استسلام الفرد لواقعه وتَحَوُّله إلى ما سماه المفكر الفرنسي "أتين دو لابواسييه" بــ"المواطن المستقر"
  

فيتشرب بذلك العقل المُلَقَّن في المدرسة بشكل تدريجي تلك البروبغاندا التي يقدمها له الإعلام صباحا ومساء، فَيُدمن الفرد المقهور على هذه الوضعية التي يعيشها، ويُشكّل حضورها بالنسبة له توازنا وجوديا يضمن به العيش المستقر ضمن محيط تحكمه قوانين الطاعة المطلقة للسلطة، وكلّما حاول هذا الفرد التفكير خارج الصندوق، اصطدم بقواعد مجتمعه التي تلخصها قاعدة (يا بني كل الخبز واسكت!!) فيلجأ بذلك هذا الفرد إلى الهروب نحو ذاته ليمارس داخلها اجترارا سوداويا لمأساته الوجودية، هذا الاجترار الذي أشار إليه المفكر والأكاديمي د.مصطفى حجازي بقوله: "يجمد الزمن من خلال اجتياف مرارة الحياة وبالتالي يسيطر على المأساة، من هنا نفهم طغيان الطابع الحزين على الحالة المزاجية للإنسان المقهور، طابع الحزن يعمم كل شيء تقريبًا ويبدو بأوضح صوره في الأغاني الشعبية التي تكاد تدخل جميعها في إطار المراثي".

 
ومع مرور الوقت وتراكم مشاعر القهر داخل الذات، ينزل جزء من هذه المشاعر إلى المستوى اللاشعوري في انتظار لحظات التفجير الجزئي أو الكلي؛ فأما الجزئي فيتمثل في ذلك العنف الرمزي الذي يمارسه الفرد تجاه محيطه المادي أو الهُوِيَّاتِي لفقدانه لإحساس الانتماء إلى هذا المحيط، فيعتبر بأن اقتلاعه لكرسي محطة الميترو وهو ينتظر وصوله المتأخر كهواية يمارسها لصٌّ سَادِي في بيت ضحيته، وينظر للشرطة كعدو محتمل يجب الحذر منه في كل حين، وإذا تطلب الأمر يمكن حتى أن يحذّر غيره من المخالفين من أي تواجد مفاجئ لأجهزة السلطة. ومع مرور الوقت يَتَسَرب شعور القهر ليُلَوِّث علاقة الفرد حتى بهويّته فيَكْرَه لغته الأُم ويعكّر صَفْوَها بمُفردات من لغات أخرى، ويستخدم السلبي والعنيف فيها لوصف الجميل، فيصف المرأة الجميلة في حديثه بـ(القنبلة) والعالم الجهبيذ (بالخامج)…إلخ.
 
وأما التفجير الكليّ فهو حالة من فقدار التوازن تنشأ عندما يفشل الفرد في مُدَاراة مشاعره السلبية اللاشعورية تجاه السلطة، فينفجر في وجهها مستخدما كل ما هو متاح من عوامل القوّة، وإذا تطلب الأمر فهو على استعداد حتى للاستعانة بقوة أجنبية ليضمن إسقاط ذلك الرمز القاهر الذي فشل في تسيير حالة القهر الهادئ وذلك إلى حين استبداله بسلطة أخرى أقدر على إعادة ذلك التوازن، سواء بمظاهره المَرَضيّة أو بتحريره من قيوده اللاشعورية من خلال السماح لذاته بأن تنفتح على محيطه الهُوِيَّاتِي.
 

ستظل الثورة رغم ما لحقها من أوصاف النحس هي الخيار الوحيد للمضي قُدُماً في علاج حالة التخلف، فهي وبرغم آلامها الجانبية تظل الأداة المتوفرة لاستعادة عافية الشعوب
ستظل الثورة رغم ما لحقها من أوصاف النحس هي الخيار الوحيد للمضي قُدُماً في علاج حالة التخلف، فهي وبرغم آلامها الجانبية تظل الأداة المتوفرة لاستعادة عافية الشعوب
  

وبين هذا وذاك، يمكن للفرد المقهور أن يستخدم بعض الآليات الدفاعية المتوسطة والتي من أهمها استسلام الفرد لواقعه وتَحَوُّله إلى ما سماه المفكر الفرنسي "أتين دو لابواسييه" في كتابه "العبودية الطوعية" بــ"المواطن المستقر" الذي تنحصر اهتماماته في بضعة قضايا؛ على رأسها الدين ولقمة العيش؛ فالدين عند المواطن المستقر لا علاقة له بالحق والعدل، وإنما هو مجرد أداء للطقوس واستيفاء للشكل وإرضاء لذلك المحيط المتسلّط، أما لقمة العيش فهي أكبر عنده من كل حقوقه السياسية، بحيث يعمل فقط من أجل تربية أطفاله وسداد حاجياتهم البيولوجية ريثما استقلوا بحياتهم. ويمكن لهذه الاستراتيجية السيكولوجية أن تقترن مع أخرى كالهروب إلى الماضي وذلك حينما يستغرق أفراد المجتمع المقهور معظم أوقاتهم في إظهار الحنين إلى تلك الفترات المضيئة من تاريخ آبائهم أو أجدادهم، وهذا من شأنه أن يزيد من مستوى الشوفينية التاريخية عندهم والتي غالبا ما تستغلها السلطة القاهرة في خلق شوفينية حضارية تُغيّب الأفراد عن واقعهم، وتجعلهم في صدام مستمر مع الشعوب الأخرى.

 
إذن، فالتخلف بوصفه ظاهرة شمولية شديدة الصلة بحالة القهر التي يتعرض لها أفراد المجتمع، لا يمكن علاجه عرضيّا فقط، من خلال إطلاق حراك تَوْعَوِّي يراهن على رفع قيمة الوطن في أذهان المواطنين، سواء من طرف السلطة الحاكمة أو من طرف النخب المناوئة لها، بل يجب قبل ذلك النظر إليه كالمرض العضال الذي قد يتطلب في إحدى مراحل علاجه إزالة جزء من الجسد المريض الذي لم يعد ممكنا التعايش معه، وهو في حالة المجتمع يمثل المتسلط بكل أدواته الواعية بما كانت تمارسه من قهر منظّم وإرادي، وستظل الثورة رغم ما لحقها من أوصاف النحس -خصوصا في عالمنا العربي- هي الخيار الوحيد للمضي قُدُماً في علاج حالة التخلف، فهي وبرغم آلامها الجانبية تظل الأداة المتوفرة لاستعادة عافية الشعوب وتحريرها من ربقة التخلف المفروض عليها قهرا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.