شعار قسم مدونات

لا تعجب ممن هلك كيف هلك

blogs - pra

همس أحد السائرين إلى الله من السابقين الصادقين ذات مساء في أذن ابنه، قائلا: يا بني، لا تعجب ممن هلك كيف هلك؟ ولكن أعجب ممن نجا كيف نجا؟ حقا، في زمن كثر فيه الهالكون، وازدادت فيه أعدادهم، بل كانت الغلبة الغالبة فيه للهالكين، حيث مهدت فيه سبل الهلاك، وساد فيه دعاة الهلاك، في مثل هذه الأجواء لا يسأل فيها عن الهالكين، كيف هلكوا؟ لأنه سؤال بلا معنى، فأسباب الهلاك منتشرة في أوصال المجتمعات، انتشار السرطان في الجسم.. فعن أي شيء يسأل السائل؟ 

محطات الهلاك منبثة هنا وهناك، وترفل بثياب الرعاية والاهتمام، تأخذ مسميات براقة، وتحوطها عناية القانون.. فسبلها ميسرة، وأمورها محكمة.. ودعاتها لهم بين الناس مكانة، وراياتها للأسف ترفرف بلا حياء أو خجل. فليس عجبا أن يهلك المرء في مثل هذه الأجواء، لكن العجب العجاب أن ينجو المرء، في ظل هذه الأجواء الموبوءة المسمومة القاتلة.. وفعلا يحق للجموع أن تسأل الناجي: كيف نجا؟! وعلى المرء في زمن كهذا أن يجتهد في البحث عن الناجين على قلة عددهم، وندرة في وجودهم.. كما وعليه أن يجتهد أيضا في البحث عن سبل النجاة ووسائلها، رغم صعوبة البحث، إلا أن الخوف من الهلاك، يحفز الهمم، ويقوي العزائم…

نعم، في زمن مهدت فيه سبل الهلاك، وحرست طرقها، وفتحت أبوابها، يصبح لزاما على المرء أن يخشى على نفسه من الهلاك، فالغفلة في مثل هذه الأجواء مهلكة، ويا لها من مهلكة، فإذا كان الأول في زمن غابت عنه كل وسائل التكنولوجيا بكل ما يُحملها إياه الفاسدون والمفسدون في الأرض، نعم، في وقت غابت فيه كل هذه التكنولوجيا التي استغلت استغلالا فاحشا، في تدمير الأخلاق، وإفساد الشباب والأجيال، وتدمير البيوت والأسر والمجتمعات.. مع إيماننا بعظمة دور هذه التكنولوجيا في خدمة الإنسانية، والارتقاء بها في كثير من الجوانب.. إلا أن هذا لا يمنع من ذكر الجانب السالب الذي جرت إليه واستغلت فيه..

الله الله، أيها السائرون، فما أكثر الهالكين، وما أقل الناجين، وما أكثر الغافلين، والداعين إلى الغفلة، وما أكثر المسيئين، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وما أقل الذاكرين والداعين إلى الذكر الحكيم
الله الله، أيها السائرون، فما أكثر الهالكين، وما أقل الناجين، وما أكثر الغافلين، والداعين إلى الغفلة، وما أكثر المسيئين، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وما أقل الذاكرين والداعين إلى الذكر الحكيم
 

في مثل هذا الجو النقي من هذا كله، قال الأول لابنه: لا تعجب ممن هلك كيف هلك، ولكن اعجب ممن نجا كيف نجا؟ فكيف لو أنه عاش زمانا كزماننا.. اخترقت فيه الحرمات، ولطخت القيم، وحطمت فيه الحواجز.. ومزقت الموانع والستائر.. فغدت الأمور مكشوفة بل مفضوحة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، أو تدل عليه من دلالات.. فغرف النوم غدت نهبا وميدانا.. تلعب فيه الشياطين، تشرق وتغرب.. يغلق أحدنا باب بيته على كل فساد الدنيا.. وذاك زمن مَنْ أغلق باب بيته أمِنَ على نفسه وولده.. وهذا زمنٌ مَنْ أغلق باب بيته لم يأمن على نفسه ولا على ولده.. وفي الجعبة حكايات وحكايات.. لها بدايات لكنك لا تكاد تجد لها نهايات.. 

سبل الهلاك.. تنوعت صورها، وكثرت ألوانها، وتعددت وسائلها.. سبل الهلاك.. كانت محصورة في المكان ومحدودة في الزمان، لقد كانت ذات حدود وسدود، الوصول إليها يتطلب جهدا ومشقة وتعبا، وربما سفرا بعيدا مكلفا، وربما تطلب إنفاقا وبذلا باهضا، وبالرغم من ذلك قال السائر فيها ذلك الحين: لا تعجب ممن هلك كيف هلك، بل اعجب ممن نجا كيف نجا؟.. فكيف بنا اليوم وقد غدت سبل الهلاك ووسائلها اليوم تحاصر المكان وتسابق الزمان، وتملأ الفضاء، وتعج بها الأنحاء..

فالله الله، أيها السائرون، فما أكثر الهالكين، وما أقل الناجين، وما أكثر الغافلين، والداعين إلى الغفلة، وما أكثر المسيئين، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وما أقل الذاكرين والداعين إلى الذكر الحكيم، فالأمر يا سادة خطير، لا بل جد خطير.. ويحتاج مني ومنك إلى النفير يتلوه النفير.. فقد زلت حتما قدمُ من أمن مكره، أو سرقته فيه لحظة غفلة، فكيف بمن اطمأن في دروبه، وعاش في سرابه، وسعى في ركابه؟ ناسيا مآله، غافلا عن آخرته، متجاهلا مصيره، مغترا بدنياه، التي ملأ حبها قلبه، وملك بريقُها نفْسَه ونفَسَه؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.