شعار قسم مدونات

لماذا نعجز عن مواجهة الافتراء وننجح في تبرير الأخطاء؟

blog help

يقول غيورغي غوسبودينوف في روايته الشّهيرة "فيزياء الحزن": "لقد لاحظتُ أنّني أستطيع أن أبرّر بسهولة أكبرَ الأشياء التي كنتُ قد فعلتُها، ولكن عندما يتّهموني بشيء لم يخطر ببالي على الإطلاق، أبقى معقودَ اللسانِ ومذنِبا. كما يقال: "كاد المريبُ أن يقول: خذوني". أمّا بالنّسبةِ لي فالعكس كانَ دائما أصحّ: "كاد البريءُ أن يقول: خذوني".

لعلّ صمتَنا يطول حين نقفُ في موقفِ المدافع عن نفسِه قبل أن نستطيع النّطق، حين يأتينا اتّهام مفاجئ من حيثُ لا ندري ومِن أكثر المناطق أمانا؛ الأشخاص الذين نحبّهم. نُطرِقُ واجمين في محاولة عابثة لاستيعاب حجمِ الاتّهامات التي لا أساس لها من الصحة، وكلّما فكّرنا أكثر نزدادُ ذهولا وتساؤلا عمّا خبّأهُ لَنا أولئك "الأحبّة" في صدورهم طوالَ الوقت قبل أن ينفّسوا عنه أخيرا على شكلِ اتّهامات، مُمرّرين رأيا غريبا عمّا يعتقدونه بشأننا في عروة الكلام الذي -ويْكأنّه- كان ينتظر فحسب فرصة مواتية ليخرج من كنانه. وفي خِضمِّ هذا الذهول نعجزُ عن الرّدّ، حتى ليبدو صمتُنا إقرارا بكلّ ما قالوه. 

غالبا، وكشخص اعتاد على تبريرِ أفعال النّاس وكلماتهم مهما كانت سيئة ولا تبرَّر، بزعمِ أنّي أتفهّم طبيعةَ الإنسان وميلَهُ لسوء الفهم وحساسيّته تجاه الذين يكنّ لهم مشاعرَ عميقة على وجه الخصوص، كنت أنصرِفُ عن أيّ احتماليّة ممكنة تُفضي إلى التّشكيك في النّاس وصدق نواياهم إلى التشكيكِ في نفسي وصدقِ نواياي؛ "ربما أنا من جعله يفكر بتلك الطريقة" أو "لعلّه أساءَ فَهمي ولم يقصد" وأستمرّ في تلك الحلقةِ من الأعذار إلى أنْ أصِلَ إلى نقطة أقول فيها فعلا: "لقد كان محقّا".

نكبرُ، ولا تعودُ لدينا الطّاقةُ لتقبّل المزيد ومنحِ الأعذار، خصوصا حين تشير كلماتُ النّاس إلى أشياءَ لم تخطر في بالنا ولو بحديثِ النّفس، وإنّما إلى حقيقةِ ما يعتمِلُ في صدورهم من سوءِ الظنّ
نكبرُ، ولا تعودُ لدينا الطّاقةُ لتقبّل المزيد ومنحِ الأعذار، خصوصا حين تشير كلماتُ النّاس إلى أشياءَ لم تخطر في بالنا ولو بحديثِ النّفس، وإنّما إلى حقيقةِ ما يعتمِلُ في صدورهم من سوءِ الظنّ

يُكمِل غوسبودينوف نفسه مُعلّقا: "كم هو الإنسانُ غير واثق ببراءَتِه!". خلالَ مروري بمواقف شبيهة، أقصدُ -على نحو دائم ومُضحك- بعد الخروج منها، كنتُ أتذكّر فجأة موقفا لذات الشخص، يفعلُ فيه ذات الشيءِ الذي اتّهمني بفعله دون وجهِ حقّ لمجرّد أنّي قلتُ عبارة فهمها هو على نحو خاطئ، وربّما كان ينتظرُها، ولم تكن تستدعي كل تلك التحليلات والأحكام والتذييلاتِ البرّاقة كـ"المرءُ مخبوء تحت لسانه" وما شابهها. كنتُ أستغربُ بشدّة كيف يمكن لمرء أن يسيءَ فهم امرئ ما إلى هذا الحدّ من مجرّد كلمة أو إيماءة ثمّ يدّعي أنّه يحبّه ويحترمه! 

الذين عابوا سماحَتنا وتقبُّلنا لاختلاف النّاس مرّة ونصحونا بعدم التفكير بهذه الطريقة تتجمّعُ أصواتُهم وصوَرهم -أقول أصواتهم وصورهم لأنّه ومع تحليل صغير كنت أكتشف أنّ لهم أكثر من صوت وأكثر من صورة تبعا للموقف- في رؤوسنا وكأنّها أحجية، وحين تكتمل لا تشيرُ إلا إلى تعنّتِهم وتعصّبهم. والذين كانوا يحضّوننا على الاقتصاد في النفقات ويتّهمونَنا والنّاسَ بالإسراف والتّبذير تارة حين يكون المصروفُ شخصيا، ومرّة أخرى بالبخل حين يتعلّق الأمرُ بشأن جماعيّ ويحثّوننا على بذل المزيد، كانوا أكثرَ النّاسِ شحّا وبُخلا، ولم يُريدوا بكلامِهم سوى أن يتخفّفوا من الأحمالِ التي على كاهلهم -إن لم يكن إلقاؤها على كاهلنا هو الأصحّ- لأنّهم يرون أن الجميع يفكّر بذات الطريقة؛ طريقتهم.

أستحضرُ هنا ملاحظة دقيقة على لسانِ مغرّدة تسمّي نفسها اسمرلده: "إشارته الدائمة لنقائصك -مهما كانت صفته في حياتك بالمناسبة- تعني أنّه يتحدّث عن نقائِصه هو بصوت عال، ولكنّه يعاقبك أنت". ويؤكّدها المتنبي حين يقول: "إذا ساءَ فعلُ المرءِ ساءَتْ ظنونُه.. وصدّقَ ما يعتادُهُ من توَهُّمِ".

نحن الذين لم نحظَ يوما بفرصةِ أن تدعكنا الحياة ولا أنْ نفهمها كما فعلتْ معكَ أيّها العارفُ المجرّب. سامحنا لأنّنا لم نعدْ نعرفُ أينَ يجبُ أن نضعَ النّاس وعلى أيّ مسافة منّا
نحن الذين لم نحظَ يوما بفرصةِ أن تدعكنا الحياة ولا أنْ نفهمها كما فعلتْ معكَ أيّها العارفُ المجرّب. سامحنا لأنّنا لم نعدْ نعرفُ أينَ يجبُ أن نضعَ النّاس وعلى أيّ مسافة منّا
 

نكبرُ، ولا تعودُ لدينا الطّاقةُ لتقبّل المزيد ومنحِ الأعذار، خصوصا حين تشير كلماتُ النّاس إلى أشياءَ لم تخطرْ في بالنا ولوْ بحديثِ النّفس، وإنّما إلى حقيقةِ ما يعتمِلُ في صدورهم من سوءِ الظنّ وخبث الطّويّة الذي لا يبرّرُه شيء لأنّه "لا يسيء الظنَّ بك من عرفك بقلبه لا بعينه".

 

نمتَلِئُ عن آخرِنا بما عبأه فينا النّاسُ على مدارِ سنوات من التّصيّدِ والظّنون، حتى يصبح التّوجّسُ من كلّ الناس هو رد علِنا الطبيعيّ، ولا يعود بمُستطاعِنا أن نسمحَ لأحد بعدُ بأن "يأخذَنا" لأنّنا لا نزالُ بريئينَ فعلا وإن لم تسعفنا الكلمات ولم تنتصرْ لنا. نجنَحُ إلى السِّلمِ عن طريق التّخفّفِ من دائرة علاقاتنا قدرَ الإمكان، ونبتعدُ غيرَ كافّين عن إرسال رسائل المسامحة والاعتذار بدعوى انشغالنا والتزاماتنا على هذا التّحول الذي أُجبِرنا عليه أكثر مما كان باختيارنا: سامحْ تقصيرَنا، سامحْ خطأَنا، سامحْ تخييبنا توقّعاتك وظنونك، والحقيقةُ أنّنا كنا نرغبُ بأن نعترف بضعفِنا فحسب ونقول ببساطة: سامحْ هشاشَتنا.

سامحْ هشاشتنا حين نُغرِق في استخلاص الدّروس من موقف صغير وشخص عابر، نحن الذين لم نحظَ يوما بفرصةِ أن تدعكنا الحياة ولا أنْ نفهمها كما فعلتْ معكَ أيّها العارفُ المجرّب. سامحنا لأنّنا لم نعدْ نعرفُ أينَ يجبُ أن نضعَ النّاس وعلى أيّ مسافة منّا، ولأنّا بتنا نتوجّس من أتفه الأشياء ونشكّك بصدق الغرباء ونواياهم، فهذي كلُّ حيلتنا حتى لا يتكرّر معنا نفسُ "الموقف الصغير".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.