شعار قسم مدونات

الرأسمال البشري.. همسة للمستقبل

blogs البشرية

قتل وتعذيب واضطهاد ومحسوبية ورشوة وغياب رؤية وضعف تخطيط، إلى آخره من الكلمات والعبارات الواقعية الموجودة في بلادنا، فلا تنمية سليمة، ولا اهتمام حقيقي في البنية التحتية، ولا وجود لخطط تنموية واقعية للخروج من هذا الخراب والتراجع الكبير في حياة هذه المنطقة وشعوبها، ولا تهيئة لقيادات الأجيال القادمة علّهم يستطيعون أن ينتشلوا هذه الأمة من ركام سنوات من السير إلى الوراء.

 

إن العارفين والدارسين والمدركين لحقيقة أن بلادنا تحتاج إلى سنوات كثيرة وطويلة من السعي والجهد حتى نصل إلى مرحلة نقول فيها: "وصلنا إلى بداية التنمية". يعلمون تمام العلم أن كل سنة تأخير في التقدم خطوة إلى الأمام؛ يعني تأخر سنوات كثيرة للوراء في هذا العالم المتسارع جدا في التقدم، وأن ما يمكن فعله اليوم في سبيل ردم الفجوة الكبيرة ربما لا يصلح مستقبلا، لذلك فلا بد من وضع اليد على الجرح حتى يقف نزيف الانحدار على جميع المستويات.

المجتمعات والشعوب هم أمل هذه الأمة، ولا يمكن  بأي حال من الأحوال التقدم إلا إذا كان الإنسان هو الهم الأول والأساسي لكل من له القدرة والقوة على فعل شيء في سبيل التنمية، وأن يكون هذا العنصر البشري في هذه المجتمعات هو رأسمال أي دولة أو مؤسسة أو أي مدرسة أو حتى أي جمعية. قد يقول قائل: "لا يمكن إصلاح الإنسان في منظومة من الاستبداد والعنف والقهر والاضطهاد"، وهذا بشكل أو بآخر؛ صحيح ولا يمكن أن نتجاوزه، ولكنه في نفس الوقت لا يمكن اعتباره الشماعة التي توقف أي تفكير في سبيل بناء الإنسان القادر على تغيير هذا العبث الموجود في بلادنا، فلا يعقل أن ننتظر أن تتغير المنظومات، وتأتي منظومة تسعى إلى التنمية ثم نقول: "من الآن نبدأ"؛ لأن هذا لم ولن يحصل، فجيل اليوم هو قائد الغد، والجيل الذي لم يستطع بناء نفسه لن يستطيع بناء مستقبل غيره.

ارتفاع نسبة المتعلمين لا يعني بالضرورة ارتفاع نسبة الوعي في المجتمع، ولا يعني بالضرورة ارتفاع نسبة البحث العلمي الذي يخدم المجتمعات
ارتفاع نسبة المتعلمين لا يعني بالضرورة ارتفاع نسبة الوعي في المجتمع، ولا يعني بالضرورة ارتفاع نسبة البحث العلمي الذي يخدم المجتمعات
 

وقد يقول آخر: "ما نبنيه في الإنسان في سنوات، يهدمه الاستبداد في لحظات، فلا فائدة من إضاعة الوقت"، وهذا أيضا كلام فيه الكثير من الصحة، ولكن يجدر الحديث هنا على أن من يتولى أمرا ما، في أي مؤسسة كانت؛ صغيرة أم كبيرة، عليه وبشكل أساسي أن يكون هو أولا على دراية ومعرفة بماذا يبدأ؟ وماذا يفعل؟ وما الأمور التي يجب التركيز عليها؟ حتى يكون الجهد المبذول في بناء الإنسان جهدا مثمرا وقادرا على الصمود في وجه المتغيرات الكثيرة.

إن عوامل نهوض أي مجتمع قد تنقسم إلى ثلاثة عوامل رئيسية وهي: "التعليم، والشباب، والقيادة" ولعلك وأنت تقرأ هذه العوامل تعرف وتتأكد أن كل هذه العوامل مبنية بشكل أساسي ورئيسي على الإنسان نفسه. فالتعليم يبني الإنسان؛ وهو الرافد الأول للمجتمعات بالأشخاص المؤهلين وذوي الخبرات، والشباب الذين هم وقود المجتمعات مستقبلا، والقيادة التي ستأتي في المستقبل من هؤلاء الشباب الذين دربوا بشكل جيد، وتعلموا بشكل جيد.

ماليزيا في الوثائقي الذي عرضته قناة الجزيرة بعنوان "شروق ماليزيا"؛ هي دولة عانت الكثير من المشكلات، احتلال وراء احتلال، وتفتت مجتمعي وعرقي، وطبقة حاكمة متسلطة في الاقتصاد، لكنها استطاعت أن تكون الدولة التي نراها اليوم، بفضل العوامل التي ذكرناها سابقا؛ وهي "التعليم، والشباب، والقيادة". إن هذه العوامل ليست مقتصرة على ماليزيا وحدها، فهناك تركيا، وسنغافورة، واليابان والكثير من الدول التي اتخذت من التعليم سلما للنهوض، ومن الشباب معولا للبناء، ومن القيادة تنظيما وتوجيها. إذا، ماذا ينقصنا نحن العرب؟

 

التعليم
على جميع من يهتمون بفئة الشباب أن يعوا جيدا؛ أن الاستقطاب وتغذية روح الحزبية أو القومية أو العرقية لن تأتي بنتيجة، وستكون وبالا على الأحزاب والجماعات التي تنتهج هذا النهج

بنظرة سريعة على قوائم تصنيف جودة التعليم في البلاد العربية، ستعرفوا مدى جودة التعليم في هذه البلاد، فبعضهم متذيلين للقائمة، وليس منهم من هم في صدارة الدول. إن هذا الواقع يفرض نفسه على هذه البلاد، وكما يقول أهل الصناعة: "لن يكون المنتج جيدا إذا كانت جودة تصنيعه سيئة"، وهذا يندرج أيضا على التعليم. صحيح أن بعض البلاد العربية نسبة الأمية فيها قليلة جدا، ولكن هذا المعيار ليس هو المعيار الذي سوف تبنى عليه مشاريع التنمية بشكل أساسي، قد يكون معيارا مساعدا؛ ولكنه ليس الرئيسي، فارتفاع نسبة المتعلمين لا يعني بالضرورة ارتفاع نسبة الوعي في المجتمع، ولا يعني بالضرورة ارتفاع نسبة البحث العلمي الذي يخدم المجتمعات، ويمكنكم أخذ جولة في إحصائيات البحث العلمي في البلاد العربية لتعرفوا الفجوة بين التعليم وبين مخرجاته. 

في ماليزيا على سبيل المثال لا الحصر، هناك الجامعات الحكومية وهناك الجامعات الخاصة، ليس بالضرورة أن تكون كل الجامعات حكومية، ولكن من الضروري الحفاظ على جودة التعليم، وتعزيز دور الاستثمار في التعليم كرافد من روافد صناعة التنمية. لذلك، وبالقياس على هذه التجربة وغيرها، قد يكون من الصعب إصلاح منظومة التعليم الحكومية في بعض البلاد، هذا يعني أنه من الضروري التفكير بمسارات أخرى للنهوض بهذا التعليم، وبالقياس؛ يمكن أن تكون الطريقة هي تعزيز دور المدارس الخاصة، والجامعات الخاصة، بحيث تكون هذه المدارس والجامعات قادرة على مواكبة العصر، ومناهجها منسجمة مع متطلبات التقدم العالمي، كالاهتمام بالاقتصاد والعلوم السياسية والاجتماعية والفكرية وعلوم التكنولوجيا الحديثة، وهذا لا يكون إلا إذا تم توجيه رأس المال للاستثمار في إنشاء ورعاية مثل هذه المدارس والجامعات، ولا أظن أن ذلك صعباعلى من يسعى النهوض في هذا الجانب.

 

الشباب

في الدول التي تسعى إلى التطور، فإن فئة الشباب لديهم يحتلون مرتبة متقدمة في تفكير القادة والرموز، كون هؤلاء الشباب هم الجيل الحالي الذي يتعلم ويطور من فكره وقدراته، ليكون مستقبت وقائد مسيرة التنمية. في ظل ذلك، وفي حال كحال بلادنا العربية، فإنه يتعين على كل صاحب تأثير، أو صاحب مسؤولية في أي مؤسسة كانت صغيرة أو كبيرة أن يعي تماما الدور الملقى على عاتقه في احتضان طاقات الشباب، وتصديرهم للواجهة لاكتساب الخبرات، وعدم التحجج بقلة خبراتهم وقدراتهم، فأن يخطئوا اليوم -وهم في مرحلة التعلم- خير من أن يخطئوا مستقبلا وهم قادة. فعندها يكون الخطأ بمثابة الكارثة.

 

إن على جميع من يهتمون بهذه الفئة أن يعوا جيدا بأن الاستقطاب وتغذية روح الحزبية أو القومية أو العرقية لن تأتي بنتيجة، وستكون وبالا على الأحزاب والجماعات التي تنتهج هذا النهج في عناصرها وأفرادها، والأولى أن يهتموا  بتعزيز روح المواطنة والمسؤولية لدى عناصرهم وشبابهم وفي تطوير مهاراتهم العملية؛ في السياسة والاقتصاد والعلوم الاجتماعية، حتى إذا ما صاروا قادة، كانوا قادة جامعين لغيرهم لا مفرقين، قادرين على التأثير وليسوا واقعين في التأثر بكل ما يمليه عليهم غيرهم. 

يقول الأستاذ حسين العطاس الكاتب والمساعد السابق لمهاتير محمد في ماليزيا
يقول الأستاذ حسين العطاس الكاتب والمساعد السابق لمهاتير محمد في ماليزيا "إذا أردت أن ترى بلدا جيدا فأنت تحتاج إلى قائد جيد" 
 
القيادة

من يهون من أهمية وجود قيادة مسؤولة وواعية وقادرة على التغيير والتنمية، هو بمثابة من يرى المشكلة ويعمل على حل آثارها لا أصلها وجذورها. لذلك فإن الاهتمام بإيجاد قيادة قادرة على التأثير في المستقبل يجب أن يكون الشغل الشاغل لكل من يريدون التنمية والتغيير، ولا يكون ذلك إلا من خلال برامج تعليمية وتنموية قادرة على إيجاد مثل هذه القيادة كما قلنا من خلال التعليم والاهتمام بالشباب، وكما هو الحال في كثير من البلاد التي نهضت كماليزيا وسنغافورة وتركيا، فقد كان لتربية الأفراد فيها ليكونوا قادة أثر كبير. 

يقول الأستاذ حسين العطاس، الكاتب والمساعد السابق لمهاتير محمد في ماليزيا "إذا أردت أن ترى بلدا جيدا فأنت تحتاج إلى قائد جيد"، وتقول "آسيا أبو سماح" المدير العام السابق في وزارة التعليم الماليزية: "عندما تكون لدى الدولة خطة ورؤية وأمانة في التنفيذ فإن الأمور تسير بسلاسة". إن ما قالوه صحيح، وينطبق على كل البلاد والأفراد في جميع أنحاء الأرض، فلا يمكن أن تبني مدرسة خاصة إلا إذا كان هناك من يؤمن بأهمية هذه المدرسة، ولا يمكنك أن تنشيء جمعية أو مؤسسة تعنى بالشباب وتأهيلهم للمستقبل، إلا إذا كان هناك قائدا، لديه الخطة والرؤية لإدارة هذه الجمعية أو المؤسسة، ولا يمكنك أن تبني جيلا قادرا على التأثير، إلا إذا كان هناك معلما قائدا لهم. إن قيادة الأمور نحو التنمية أمر يمكن أن يحدث، ويمكن أن يخطو ببلادنا خطوة إلى الأمام، عماده الرأسمال البشري، ووقوده نظرة ثاقبة نحو المستقبل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.