شعار قسم مدونات

عندما دَخَلْتُ "الكهف" أبحث عن النور..

blogs قرآن
حين نسمعُ "الكهفَ"، أولُ ما يتراءى لأذهاننا "الظلمة والوحشة، بل والرعب في بعض الأحيان.. لكن حينَ نسمعُ "سورَةَ الكَهْفِ" تنقلبُ هذه التصورات تماما، فنستشعر الطمأنينة بدل الوحشة، والراحةَ مكانَ الرعبِ. وتَتَعَجَّبُ كيفَ لِـ"مضافٍ" أنْ يقلبَ صورةَ الظلمةِ للكهفِ بأنوارٍ ساطعة!

   

ورغم أنَّ كلامَ الله كلَّهُ نور، إلا أنَّ النبي ﷺ اختصَّ هذه السورة بالذاتِ بِـ"النور"، ففي الحديث الذي أخرجه البيهقي والحاكم، ورواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، أنّ رسول الله ﷺ قال: "مَن قَرَأَ سُورةَ الكهفِ يومَ الجُمعةِ، أضاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ ما بَينَ الجُمُعَتَينِ"، ليكسِرَ ﷺ أفقَ انتظار المتلقي بتلازم "الكهف" بِـ"الظلمة" في ذهنه. فما النور الذي يُضيء للمؤمن الذي يقرأ السورةَ يوم الجمعة؛ سِوى نبعٌ من أنوارِ هذه السورة، و﴿يَهْدي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ﴾..
   
لقد تعرَّضَت السورة لفتن كونية تَحْيَى في الدنيا ما دام الإنسانُ يَعمُرُها، وهي فتنة الدين والمال والعلم والسلطة، وكأنَّ عبقرية رسول الله ﷺ تُنبئُ أنّ قراءة سورة الكهف كلَّ أسبوعٍ يجعلكَ تتَذَكَّرُ دَورِياً هذه المعاني، وتسقي طِينِيَتَكَ التي، لا شَكَّ، افْتُتِنَتْ بِإحْدَى الفِتَنِ الأربعة؛ ماءً زلالاً يَرْويكَ، ونوراً يقيكَ حتى الأسبوع القادم، وهكذا دواليك.. وأنتَ تحمِلُ بين يديكَ المصحفَ، وتفتحُ دفَّتيهِ على السورةِ، وتتلُو بخشوعِ المقصِر، وخضوعِ المذنبِ الغافل..

      

تدخلُ "الكهفَ" وكُلُّكَ ظلمة، على أملِ أنْ تنبَعِثَ بَعْدَها بِنُورٍ يُشرِقُ روحَكَ على عوالمِ النجاةِ.. ومِن آية لآية، وقصةٍ لقصة.. تكشِفُ نوراً عجيباً مِن أنوار هذه السورة، نورا ما يكادُ يفارقكَ في موضعٍ، حتى يطلعَ لك في آخر.. وهو "نور التواضُع"يسطعُ عليكَ في قصة موسى والخضِر، ليُلقِنَكَ أنّ فتنة العلمِ قد تطمِسُ عينَيكَ عن الحقِ، وتدعوك لبعض الكبرِ.. 


ويسطعُ في قصة إبليس وآدم، ليحميكَ إنْ حملتَ حقدا دفينا في قلبك، أورثكَ تكبُراً عن الله أو خلقهِ.. ويذَكِّرَك في كل برهةٍ بأن تلْتَجئِ لِـ "نور التواضع".. وقبلَ هذانِ الموضعانِ، يتلألأُ هذا النورُ وهّاجاً في قصة الرجلَينِ، ليُريكَ فعلا عظمته في النفسِِ والآفاق.. ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِن أَعْنَابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وجعلنا بَينهما زَرْعاً كِلْتا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكْلَهَا وَلم تَظْلِم مِّنه شيئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثُمُر﴾..

   

كم مِن عالمٍ زَلَّ.. كم مِن معافى اعتل.. وكَم مِن ذي لُبٍ اختَل.. والدنيا لا تستقيمُ على خطٍ واحد، ومقادير الله تجري بما نشتهي وما لا نشتهي
كم مِن عالمٍ زَلَّ.. كم مِن معافى اعتل.. وكَم مِن ذي لُبٍ اختَل.. والدنيا لا تستقيمُ على خطٍ واحد، ومقادير الله تجري بما نشتهي وما لا نشتهي

    
على دَأْبِ القرآن الكريم، يُحدِثنا للاعتبار، وقَصَصُهُ ليست ترفا، ﴿فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرونَ﴾. ورَبُّ العزةِ يُجمِل الكلام ولا يفصله، لتكون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوصية السبب، فلم يَذْكُرْ في الآية الرّجُلَينِ بأسمائهما، ولم يربطهما لا بزمان ولا مكان.. على إمكانية ذلك منه سبحانه، كما لم يذكرْ"عبد العزى" في قوله: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبي لَهَبٍ﴾، ووَرَّى عن أبي جهل ولم يذكره باسمه رغم أن عديداً من الآيات في ذَمِّهِ، وَلم يُورِد ذكرَ "رمسيس الثاني"، وذكره بـ"فرعون" في سائر القرآن، ليُلْفِثَ الناسَ إلى أنَّ كلَ من جاء بالظاهرة الرَّمْسيسِيَة، يكونفي لَفِّ "فرعونَ"..
    
وقصةُ الرجلَينِ، في سورة الكهف، تخضعُ لهذا المنطقِ القرآني، وهذه النظرة الشاملة، فالأول لهُ جَنَّتَانِ، صُوِّرَتَا أَحْسَنَ تصويرٍ، فَخُـلِّبَتْ بهما العقول، وشدهَتِ الألباب، فَـدفَعَتَاه إلى العلو والتكبر والفخر على صاحبه.. والأصلُ أنَّ"الجنتينِ" قد تكونان غير "الجنتين".. قد تكون الجنتان مالا، وقد تكونان علما، قد تكونان جاها، أو صحة.. أو أيَ شيء يكون مدعاة للبروز والنشوز على الآخرين، كهذا الذي قال لصاحبه: ﴿أَنَا أَكثَر مِنكَ مالاً وأعَزُ نفراً﴾، فأطغاه كِبْرُهُ على الناس بما آتاه اللهُ دونَهم..

    

وَيُنَبِّهُهُ العاقلُ الكَيِّسُ بأنَّ ﴿كُن﴾ مِنَ الله قد تقلب الموازينَ، فلا علمَ يبقى معكَ، ولا مال في ذخيرتك، وجاهُكَ قَدْ تُحرَمُه، وقد تغذو عليلا؛ ومن كنتَتراهُ سقيماً صار قويما، ومشيئةُ الله هي الحَكَم.. فَكَمْ مِن عظيمٍ ذلَّ.. وكم مِن عالمٍ زَلَّ.. كم مِن معافى اعتل.. وكَم مِن ذي لُبٍ اختَل.. والدنيا لا تستقيمُ على خطٍ واحد، ومقادير الله تجري بما نشتهي وما لا نشتهي..

      

ولا يزال الكيِّس يُلقي عليكَ مِن أنواره: ﴿ولَوْلا إذْ دَخَلتَ جَنَّتكَ قُلتَ َما شَاءَ اللهُ لا قُوَةَ إلّا باللهِ إِن تَرَنِ أنا أقَلَّ مِنكَ مالاً وولداً فعَسى ربِّيَ أَن يُوِتيَنِي خَيْراً مِّن جَنتكَ ويُرسلَ عَليها حُسْباناً مِن السَماء فتُصْبحَ صَعِيداً زَلَقاً أو يُصبحَ ماؤها غَوْراً فَلن تستَطيعَ لَه طَلَباً﴾، وبعد هذا الذي يجب أن يكون، يأتي ما هو كائن، ﴿وَأُحِيطَ بِثُمُرِهِ فأصبحَ يُقلِّبُ كَفَّيهِ على ما أنفقَ فيها وهي خَاويَةٌ على عُروشِها﴾..

    

لتتَذكَّرَ كَمْ هي الجِنانُ التي ترتعُ فيها وأنتَ غارق في ظلمةِ الغفلة، أوِ منغمِسٌ في دَيَاجِي الكِبر، لتأخذَ القِسط الوافي من النورِ الذي سيضيء لكَ حتى الجمعة المقبلة.. وكأنكَ تشحَنُ بطاريةَ الروحِ لتتمكنَ من مجابهةِ قِوى المادةِ إلى أجلٍ مسمىً.. التواضع يَرعى النِّعَم.. ويحفظُ ثَمَرَ جنتك، سواءٌ أَكانت الجنةُ علماً أم مالاً أم جاها أم صحة.. و"مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَةَ إِلّا بِاللهِ" أحسنُ قَول بعد العملِ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.