شعار قسم مدونات

هل فقد العقل العربي بوصلته؟

Blogs- man walk
من يتتبع حركة العقل العربي وأهم إنتاجاته المعاصرة في مجال حقوق الإنسان والصناعات الحديثة وغيرها من المجالات يجد الأمر مهولا ومفزعا، سيما وأن السياق يقتضي أن يكون العقل العربي شغالا ومسهما بقدر كبير في إيجاد حلول ناجعة للمشاكل العويصة التي تمر بها الإنسانية اليوم ويعاني من ويلاتها الفرد العربي الذي رمي عن قوس واحدة من طرف الأعداء في الخارج، وأذيالهم في الداخل.
 
قد يبدو هذا الكلام مبالغا فيه، ولكن يكفي لتفنيد هذا الادعاء القيام بجولة قصيرة في أهم منتوجات العقل العربي اليوم في مجال الحقوق والحريات والفكر والأدب والسياسة والصناعة وغيرها مما به قوام العالم، حيث يتبين حجم المأساة والكارثة التي تطغى على كل المجالات دون استثناء، مما يزيد من توسيع دائرة الفرق بين العرب القدماء الذين استطاعوا بناء حضارة إنسانية عظيمة اندمجت فيها كل العرقيات والانتماءات الجغرافية لتشكل حصنا معرفيا وصرحا ثقافيا ما عرف الكون مثله، وبين العرب المعاصرين الذين تحولوا إلى أمة مستهلكة لا تحسن غير الشكوى والتباكي أمام العالم.
 
كانت العرب أول الأمر أمة بدوية لا أثر لها بين الأمم حتى جاء الإسلام، فسطع نجمها وبرزت شمسها وغدت واحدة من الأمم المتحضرة التي تتخذها الأمم الباقية قدوة ومثالا يحتذى، فشيدت صروحا فكرية وعلمية عالية جاوزت المألوف وخالفت المعتاد فهذي بغداد وقرطبة وتلك مراكش والقاهرة.. علوم تولد وتستلهم ومعارف تتبلور وتتطور وعمارة تشيد ومساجد تلهج بذكر الله ويعلو في سمائها نشيد المجد الأبدي ..حي على الفلاح.
 
تفاعل العرب بمعية فارس وحكمتها واليونان وفلسفتها والهند وزهدها مع الدين الجديد، فبنوا صرحا حضاريا قويا كان مثار دهشة العالمين حيث عملوا على فهم مادة الدين من قرآن وحديث متوسلين إلى ذلك بما بين أيديهم من معارف وعلوم، فتولدت عن ذلك حضارة غنية تضم كل الأطياف والانتماءات البشرية دون قيود ولا حدود.
 

إذا تأملنا ما بين أيدينا من ميراث ديني وثقافي وأدبي نجده ذا حمولة غنية زاخرة بالأفكار الملهمة والإبداعات العظيمة التي يعجز الأولون والآخرون عن سوق مثلها
إذا تأملنا ما بين أيدينا من ميراث ديني وثقافي وأدبي نجده ذا حمولة غنية زاخرة بالأفكار الملهمة والإبداعات العظيمة التي يعجز الأولون والآخرون عن سوق مثلها
 

وقد استطاع المسلمون -عربهم وعجمهم- فرض وجودهم عن طريق العلم والمعرفة، ولا أدل على ذلك من العلوم التي نشأت من خلال النظر في الوحيين الكتاب والسنة ثم تطورت لتبلغ أعلى مراحلها كعلم الأصول الذي يعتبر المركز الأساس لفهم خلفيات الفكر العربي وأساليب تفكيرة، وعلم مصطلح الحديث، وعلم البلاغة والنحو والصرف وغير ذلك من العلوم التي نشأت عن طريق النظر في مواد الثقافة الحية كالشعر والقرآن والحديث ومواعيظ البلغاء. ومثل هذا يقال في الفلسفة والطب والجبر والتصوف والأدب والهندسة والفلك والجغرافيا والاجتماع وما سوى ذلك.

 
بيد أن الأمر لم يمكث على حاله، بل أصاب العقل العربي عطب فأخذ في التقهقر والتراجع إلى الوراء حتى بلغ الحضيض، وذلك مع مطلع القرن الثالث عشر الميلادي حيث أخذ الفكر في الانحسار وتراجعت اللغة وأغلق باب الاجتهاد وساد الجهل وضرب التعصب أطنابه، وانطوت الأمة على نفسها، وشرع المسلمون في أكل بعضهم بعضا ولعن بعضهم بعضا، حتى غدت الجوامع تقيم أربع صلوات في الوقت الواحد، واحدة على مذهب الشافعي وأخرى على مذهب ابن حنبل وأخرى على مذهب أحمد وأخرى على مذهب مالك.
 
كما راجت فتاوى تحرم نكاح الحنبلي الحنفية والمالكي الشافعية كما هو الأمر والشأن الآن بالنسبة للسنة والشيعة والصوفية والسلفية، وغير ذلك من الأحداث التي تقصي ولا تدني وتمنع ولا تجمع.
وإذا نحن تأملنا الآن ما بين أيدينا من ميراث ديني وثقافي وأدبي نجده ذا حمولة غنية زاخرة بالأفكار الملهمة، والإبداعات العظيمة التي يعجز الأولون والآخرون عن سوق مثلها.
 
وهنا تكمن مشكلة المفكر المعاصر الذي يتوجب عليه وضع مصالحة فكرية بين القديم والجديد، دون إقصاء ذاك ولا تمجيد هذا، لكن محاولة تنزيل القديم على واقعنا دون قراءته قراءة واعية تستوعب ظروفه وسياقاته تحول دون تقديمه أي مفعول. ولعل هذا ما يثير انتقاد بعض الحداثيين وحتى بعض المفكرين الذين يتبنون رؤية الإصلاح من الداخل، اعتمادا على مراجع تراثية دينية، على عكس الحداثيين الذين يعتمدون أساسا على مناهج عقلانية صرفة، قد تُفسد بينما يطلب منها الإصلاح.
 
وعلى كل، فالعقل العربي قدم للبشرية خدمات كثيرة، ولايزال، وإن كان دوره قد تراجع مؤخرا، فالأمل معقود على أن ينطلق من جديد، ويحدد بوصلته حاملا لواء التبصير، وإعادة الإنسانية إلى الفطرة التي يظهر أنها أحوج ما تكون اليوم إليها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.