شعار قسم مدونات

قوارب موت أم قوارب نجاة

blogs - refugees

الرياح تعصف بشدة، رائحة الموت تفوح في كل مكان، لا أحد يتكلم، فقط بعض الأصوات تتلو دعوات خافتة ويائسة، الرحلة بدأت منذ قرابة 3 ساعات. قارب متهالك يحمل على متنه أكثر من 60 شخصا أغلبهم من الشباب رفقة بعض النساء والأطفال. ينظر سامي لوليد ابن حيه وصديق الطفولة ويسأله: هل سننجو؟ أكيد ستمر العاصفة بسلام؟ يصمت وليد ويبتسم ابتسامة باردة كبرودة الجو طبعا فوليد ليست أول مرة يحاول فيها اجتياز الحدود وهو يعرف أن الموت والغرق جزء من مخاطر الرحلة ….

   

في الصباح نفتح التلفاز لنسمع هذا الخبر: غرق مركب يقل مهاجرين غير شرعيين وأكثر من ثلاثين جثة تم إنتشالها، والبقية في عداد المفقودين. طبعا هذا الخبر لا يعني شيئا للكثيرين منا فهم مجرد أرقام تعودنا عليها في أخبارنا اليومية بجانب ضحايا الحروب الأهلية والمجاعات والأوبئة. لكن هؤلاء ليسوا فقط أرقاما على الشاشة بل لهم أسماء، لهم عائلات وأشخاص يحبونهم، لهم أحلام مثلنا، هم ليسوا مجرد أرقام في دفاتر الإحصاء الخاصة بالمنظمات الدولية والأممية وتقارير الوكالات الإخبارية.

   

لا يمر يوم تقريبا دون أن يشد قارب الرحلة من الضفة الجنوبية للمتوسط نحو الشمال نحو الحلم الأوروبي هي رحلة نحو الجنة في نظر البعض وهي رحلة نحو الموت في نظر من يجلس أمام الشاشة الصغيرة. لا أدري لِم كلما ذكر هذا الموضوع أستحضر إلياذة هوميروس الملحمية وقصة رحلة عودة أوليس من طروادة نحو موطنه ببلاد الإغريق، تلك الرحلة التي دامت سنوات و أبدع الكاتب في نحت معالمها و كفاح رفاق أوليس من أجل العودة إلى الوطن مهما كلف الأمر.

  

لكن اليوم ما يحصل هو العكس، فالجميع صار يكافح من أجل مغادرة الوطن غير مهتم بأهوال الرحلة ولا مخاطرها ولا حتى قصص من ماتوا ونهش سمك البحر المتوسط جثثهم. لِم يا ترى يترك شباب في ربيع أعمارهم البلد؟ أهل لأن ربيع العمر تزامن مع خريف الوطن أم أنهم مجرد مبهورين بسحر الحضارة الغربية والعطر الباريسي؟

  

خلف كل شاب على المركب توجد قصة مأساة، جرح خلفته سنوات الفقر والحرمان. طبعا لا يمكن تشجيع أي أحد على أن يغامر بنفسه من أجل عيون أوروبا، فالضفة الأخرى ليست بالفردوس ووطنك ليس الجحيم
خلف كل شاب على المركب توجد قصة مأساة، جرح خلفته سنوات الفقر والحرمان. طبعا لا يمكن تشجيع أي أحد على أن يغامر بنفسه من أجل عيون أوروبا، فالضفة الأخرى ليست بالفردوس ووطنك ليس الجحيم
  

من الواضح أن المشكلة الأساسية لشباب الضفة الجنوبية للمتوسط ليست البطالة أو الفقر المدقع أو الجوع، صحيح، هذه مشاكل حقيقية وبصدد التفاقم لكن أكبر مشكل لدى الشباب هو قتل الأحلام في هذه الأوطان فاليأس وغياب الطموح والحلم أشد فتكا من البطالة والفقر. أن تستيقظ صباحا بلا هدف، ألا تعرف أين ستذهب أو كيف ستقضي يومك، هل ستجلس في المقهى المجاور لبيتك أم في مقهى أخر؟.

 

قتل طموح الشاب يعني قتل الرغبة في الحياة داخله، ومن يفقد رغبته في العيش لن يهتم إن مات في فراشه أو مات في عرض البحر، فبالنسبة له الموت وهو يحاول الحصول على فرصة خير من الموت وهو يرتشف قهوة ممزوجة بدموع أم وبكاء طفل.
 

قد يخبرك البعض أن من يختار الهجرة غير الشرعية هم مجموعة من الشباب الذي لا يرغب في العمل ولا مستوى علمي أو فكري له، غير صحيح، فالقارب المتجه نحو جزيرة إيطالية هو نموذج يجمع كل أطياف المجتمع. تجد بين ركابه المنقطع مبكرا عن الدراسة، وتجد الجامعي والطبيب والفلاح والرياضي الذي أهملته الدولة، تجد الخارج عن القانون كما تجد الأب الذي لم يستطع إعالة أطفاله.

  

من أكثر المشاهد العالقة في ذهني هي صورة شاب تونسي وصل الشواطئ الإيطالية مرفوقا بوالدته العجوز وعمرها 70 سنة وهي لا تقوى على المشي. عندما سألته الصحفية عن سبب اصطحابه لها أجاب أن والده متوفٍ منذ سنوات وهو مُعيلها الوحيد، ولم يطاوعه قلبه على تركها والرحيل فقرر أن يأخذها معه. هؤلاء من يصفهم الإعلام كلما سنحت الفرصة بأنهم جيل من الشباب الضائع الطامع في عيش حياة الغرب، لا يختلفون عنا كثيرا سوى أن حظهم العاثر وضعهم في ظروف تجعل أي فرد يفضل الموت بسرعة على الموت البطيء.

   

خلف كل شاب على المركب توجد قصة مأساة، جرح خلفته سنوات الفقر والحرمان. طبعا لا يمكن تشجيع أي أحد على أن يغامر بنفسه من أجل عيون أوروبا، فالضفة الأخرى ليست بالفردوس ووطنك ليس الجحيم. الحل يكمن في برامج حكومية بين دول المغرب العربي ودول الاتحاد الأوروبي يتم بمقتضاها فتح باب الأمل أمام الشباب داخل الوطن لا خارج حدوده… الحل في غرس قيمة الوطن داخل كل طفل في المدرسة… الحل ألا نتعامل معهم كأرقام في أرشيفنا الكبير كبر مشاكلنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.