شعار قسم مدونات

خواطر فتاة مهاجرة!

Blogs- travel
هاجرنا لأسباب كثيرة، وعلى الرغم من أن هذه الأسباب باتت معروفة للجميع، إلا أننا نحب سماع التجربة مرارا وتكرارا حين تكون التجربة الفاجعة المشتركة بين الجميع، نعم هي تجربة فاجعة، على الرغم من أنها التجربة الأكثر تعقلا التي كان من الممكن أن تقوم بها في حياتك يوما ما.
   
في اليوم الأول من وصولنا إلى هنا، بكيت كما لم أبك أبدا، حتى إنني استغربت مدى مقدرة عيناي على بذل كل هذه الدموع دون توقف، لم أكن حتى أحاول البكاء، بل كان البكاء هو الحالة الأكثر تلقائية حينها، كان يحدث دون أن أقصد، أحسست أنني وحيدة في قارة ستهوي تماما في أية لحظة من الكرة الأرضية، إلا أن بكائي لم يدم أكثر من يومين اثنين، لكنني أصاب بحالة انتكاسية ما بمجرد سماعي أغنية ما كانت تعني لي يوما ما، أو بمجرد حتى أن أشرب فنجان قهوة، وكأن ذاكرتك تنتقم منك حين ترحل.
  
فتأخذ التفاصيل التي كنت تعتقد أنك تعرفها جيدا علاقة جديدة معك، وكأنه لم يكن عليك سوى الرحيل كي يأخذ كل شيء امتدادا جديدا لم تعتد عليه؛ أكثر جمالا وعمقا وصخبا ومعنى، الوجوه التي تحفظ ملامحها عن ظهر قلب، فنجان القهوة الذي تعرف مقاديره جيدا، والتي من غير الممكن أن تقوم بتغييرها يوما ما، أصوات من تعرفهم، امتداد الصمت المعتاد بعد كل حديث، حتى الزوايا الأقل أهمية تأخذ القداسة الأكبر، والتفاصيل التي كنت ترى أن يُستغنى عنها كي تأخذ الزاوية جمالية أكبر، يصبح لها عمق وبعد جديد لم تكن تعيه قبل اليوم، ولو أنهم قاموا بإعادة ترتيب الأشياء اليوم بما يتوافق مع ذوقك، لطالبت بحقك في استرداد عبثيتها القديمة، كل شيء يمعن النظر فيك، كل شيء يمعن النظر في إيلامك بطريقة ما، حتى الفوضى التي لم تكن تحب.
 
حين ترحل، لا تعود الكائن المنتمي أو الكائن اللامنتمي نفسه، بل تتحول إلى كائن معطوب الانتماء، هكذا تماما، نصف منتم ونصف لا منتم في الوقت نفسه، وسيكون عليك أن تتعايش مع هذا العطب الذي أصابك بقية حياتك وأنت تعلم تماما أن لا سبيل لإصلاحه، حتى وإن كنت سعيدا، حتى وإن كنت أكثر سعادة، تتمنى لو تعود منتميا فتقبل حالة السلام في انتمائك، أو تعود لا منتم فتكتشف جمالا ما في حالة اغترابك ومنفاك ووحدتك الخاصة التي صنعتها بنفسك، ولكنك ستبقى هنا، في منتصف المسافة الفاصلة بين الوطن والمنفى، بين الرحيل والعودة، بين المستقبل والذاكرة، لا تعرف الانتماء إلى مكان واحد انتماء كليا بكل الشغف فيك.
 

في رحلة منفاك العظيمة، ستتعثر بينك وبين نفسك بالكثير من الأشياء، ولن يستطيع حينها منفاك، بكل محاولات تحايلكما المتبادل، أن يعرف ماهية شيفرة تدفئتك
في رحلة منفاك العظيمة، ستتعثر بينك وبين نفسك بالكثير من الأشياء، ولن يستطيع حينها منفاك، بكل محاولات تحايلكما المتبادل، أن يعرف ماهية شيفرة تدفئتك
 

أنت لا تشتاق إلى الأمكنة القديمة بقدر اشتياقك إلى ما تفتّق فيك في تلك الأمكنة، لا تريد سوى أن تستعيد حقك في امتلاك اللحظة مرة أخرى، بكل ما فيها، إثبات حقك بامتلاك ما لم يعد، لسبب أو لآخر، ملكا لك، استعادة ما لم يعد بمقدورك بعد اليوم استعادته بهذه السهولة، وتحتاج عمرا كي تعي أنك ببساطة لم تكن تحتاج إلى شيء في هذه الحياة سوى أن تكون لك ذكرى.

  
ذكرى شوارع لا تعرف أسماءها، ولن يحدث أن تعرفها بعد اليوم، ذكرى أزقة لا تعرف إلى أي حب كانت من الممكن أن تفضي بك، العناقات التي كانت من الممكن أن تحدث، الشجارات والأحاديث الصاخبة عن الحب والفراق والخيانة والله والوطن، والضحكات والأغنيات التي وُئدت قبل أن تولد، الاجتماعات المسائية والأصوات العالية التي تشي بالشغف، الأصدقاء الذين كان من الممكن أن نعرفهم، هم موجودون في مكان ما الآن، ولكننا لن نعرفهم يوما، ولن يعرفونا، الأشياء التي كانت من الممكن أن تحدث، القصص التي كانت من الممكن أن تحكى، والروايات الكبيرة التي كانت من الممكن أن تكتب! 
 
في رحلة منفاك العظيمة، ستتعثر بينك وبين نفسك بالكثير من الأشياء التي لا تعلم متى وكيف أخذت لنفسها هذا المكان الوقح جدا في الذاكرة، لن يستطيع حينها منفاك، بكل محاولات تحايلكما المتبادل، أن يعرف ماهية شيفرة تدفئتك، أنت ببساطة لا تحتاج إلا إلى تأريخ وطن خاص بك، تقتات عليه حين يفرغ حاضرك وتجوع!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.