شعار قسم مدونات

عندما نصبِح عاقين

Blogs- family
في هذه الدنيا إذا أردت أن تبني بيتا قويا فأنت بحاجة إلى أُسس متينة، فمنطقيا إذا كان أساس البيت ضعيفا فإن البيت يكون ضعيفا ولن تتفاجأ أن يقع على رأسك في أيّة لحظة، كذلك إذا أردت أن تنشئ أسرة قوية فأنت ستبحث عن زواج مبني على التفاهم والتماسك، بحيث يكون الزوجان قادريْن على تنشئة أفراد أقوياء وأسرة أساسها قوي، وبصورة مقابلة، إذا أردت أن تنشىء مجتمعا قويا فعليك بالأُسر، فما المجتمع الكبير إلا منظومة من المجتمعات الصغيرة التي تُنشئ من مجتمعا، فالأسرة لبنة المجتمع وحجر أساسه.
 
إن تركيبة أي مجتمع هي نتاج الأسر الموجودة فيه، حيث إن سيكولوجية المجتمع ما هي إلا إنعكاس للسيكولوجية الأسرية فيه. وما نراه في مجتمعنا العربي من سلوكيات وطبائع لم يأتِ من العدم، وإنما هو نتاجنا نحن كأفراد نعيش في هذا المجتمع، فعندما نقول إننا شعبٌ ضعيف فهذا يعني بلا شك أنّ عماد أُسَرنا ضعيف، ولو تعمقنا في جذور المشكلة في أسرنا لوجدنا أنها تكمُن في جوهر حجر الأساس ذاك، هو الجوهر الذي يخرّج الأفراد للمجتمع أقوياء أو ضعفاء، ولا بد أنّه هو الذي يرفع قدر الأمم أو يحط  من شأنها، إنه التربية الأسرية.
 
منذُ الصِغر نُدَرَّسُ المبادئ والسلوكيات والتي من أهمها الإصغاء، لطالما علقت هذه الكلمة في زاوية من حجرات عقلي، نسأل المعلمة عن معنى الإصغاء، فتجيبنا: "هو أن نسمع لبعضنا البعض سواء أكنا في المدرسه أو البيت أو أيّ مكان"، نسمع هذه الكلمة، نحفظها، ونقدم فيها امتحانا، نكتب عن الإصغاء أمثلة يفترض أنها واقعية ولكنها أقرب للخيال في واقعنا، لا تمتُّ له بصلة، نجحنا في الامتحان النظريّ ولكننا لمْ ننجحْ يوما في الامتحان التطبيقيّ، بل حتى تناسينا تطبيقها، لا في المدرسة ولا في الأسرة ولا في المجتمع حتّى، فترى ذات المعلمة تُسكت طلابَها وأسئلتهم، وترى الأخ الأكبر يُسكتُ أخاه الأصغر، وبصورة شمولية أكبر ترى الحاكم يُسكت الرَّعية.
   

نحن نحتاج أن نسمع انتقادات أبنائنا، أن نعبِّرَ عن آرائِنا دون خوف من أحد، نحن بحاجة لأن نصغي فإن في الإصغاء تحقيقا لمجتمع ناجح أقرب ما يكون للمثالية
نحن نحتاج أن نسمع انتقادات أبنائنا، أن نعبِّرَ عن آرائِنا دون خوف من أحد، نحن بحاجة لأن نصغي فإن في الإصغاء تحقيقا لمجتمع ناجح أقرب ما يكون للمثالية
 

إننا نعيش على سياسة تكميم الأفواه، الفرد في الأسرة منذ صغره ممنوع من التكلم أو إبداء الرأي بحجة أنّه صغير لا يفقه شيئا، فيبقى مهمشا مكمما فمه، فيكبر ويبدأ بفهم الأشياء من حوله، وإذا ما أراد الاعتراض أو إبداء الرأي فإنه سيلقى نفس ردة الفعل، "أن أسكتْ ولا تتحدثْ ولا تعترضْ"، والحجة تكون أن وليّ الأمر يتحدث وليس لك أن تعترض، وإلا فإنك تكون متمردا عاقا لولي أمرك، حتى وإن كان رأيك هو الصواب فلا يجب أن تعترض، لأنه وببساطة ولي الأمر لا يخطئ، كما أن الدين يأمرك بطاعة ولي أمرك، ولكنهم ينسون أن الدّين أمرنا أيضا ألا نكون مجرد أتباع، أشباه أحياء، وأنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن الدّين لطالما أمرنا بالتّفكر وألا نأخذ الأمور كمسلمات، وأنّ ولي الأمر هو إنسان بالنهاية، يُخطئ ويُصيب، وإنّ من حقي كفرد أن أبدي رأيي وأصحح أي اعوجاج امتثالا لديني الحنيف أيضا.
   
"مكممو الأفواه"هم نتاج هذه الأسر، لاحقا يصبحون أفرادا في المجتمع، منهم من يصبح ولي أمر يمارس ما تمت ممارسته عليه بسياسة تكميم الأفواه، كأنه ينتقم مما عاشه ربما  انسجاما مع قانون نيوتن الثالث (الفعل ورد الفعل)، ومنهم من يبقى كما هو مكمما فمه. ثم نرى مجتمعنا العربي ممنوع فيه الاعتراض أو إبداء الرأي حتى وإن كان ولي الأمر، أي الحاكم، إنسانا ظالما، فهو أيضا نتاج لسياسة تكميم الأفواه لا يمكننا لومه وحده وإن كان يلحقه لوم وإثم عظيم، أما الشعب فهم أفراد لهذه السياسة، يجب عليهم الرضوخ وإلا أصبحوا متمردين، عاقّين، وحتى وإن نجحوا في تمردهم فإنه لن يأتي أحد أفضل، وذلك لأننا جلنا أبناء لهذه السياسة، فلا يجب أن ننتظر أحدا مختلفا.
  
بشكلٍ مبسط، إن المجتمع هو عبارة عن أفراد وإن الأفراد هم نتاج تربية أُسرية ليس إلّا، أي أنّنا بدل أن نلوم مجتمعاتنا العربية على وجه العموم، لا بد أن نلوم السبب الحقيقي بشكل خاص، بل ولا يكفي اللوم ولا يفيد حتى، يجب علينا أن نصحح هذا النقص لأننا الوحيدون القادرون على ذلك، حيث إن ما يعانيه مجتمعنا من أزمات وانحطاط وغيره هو من مسؤوليتنا نحن ويجب علينا تقويمه.
  
وفي النهاية أقول، بدل أن نوجه أصابع الاتهام إلى بعضنا البعض ونحن كلنا ضحايا سياسة "لعينة"، فالأولى لنا أن نتوقف عند الأسباب التي لا شك أن التربية الأسرية أهمّها، بل وقد تنطوي عليها أسباب عدة، ولا بد أن يكون درس الإصغاء في المدرسة ليس مجردَ درس نظري بل تطبيقا عمليا أيضا، نحن نحتاج لأن نسمع انتقادات أبنائنا، أن نعبِّرَ عن آرائِنا دون خوف من أحد، نحن بحاجة إلى أن نصغي لأن الإصغاء يحقق مجتمعا ناجحا أقرب ما يكون إلى المثالية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.